الجغرافية السياسيةتقدير موقف

اختبار الثقة في العلاقة السياسية بين الحليفين الرئيس فاي ورئيس وزرائه سونكو

الملخص

تشهد الساحة السياسية في السنغال تصاعد توتر غير معلن بين الرئيس باسيرو جوماي فاي ورئيس وزرائه عثمان سونكو، يُهدد بتفكك التحالف الحاكم. الخلافات تتراوح بين تباينات في الرؤية السياسية وصلاحيات إدارة الدولة، وملفات حساسة كملف القضاء والتعيينات والانتخابات المقبلة. تصريحات متبادلة، ومواقف صلبة، تشير إلى أن الأزمة لم تعد تكتيكية؛ بل هيكلية. ورغم محاولات الاحتواء، تُظهر المؤشرات هشاشة الثقة بين الطرفين، بما قد يؤدي إلى تداعيات على الاستقرار السياسي، والمناخ الاقتصادي، وثقة الشركاء الدوليين.

أهمّ التوصيات

  1. تعزيز الحوار المؤسسي لترسيم حدود السلطات.
  2. تفعيل آليات الوساطة الداخلية لحل الخلافات.
  3. تجنب التصعيد الإعلامي للحفاظ على الاستقرار.
  4. التركيز على الأولويات الاقتصادية لاستعادة ثقة المواطنين والمستثمرين.
  5. حماية المكاسب الديمقراطية عبر احترام استقلالية القضاء والمجتمع المدني.

إن استقرار السنغال، كقوة ديمقراطية في غرب إفريقيا، مرهون اليوم بحكمة قيادتها وقدرتها على إدارة الخلافات ضمن الإطار الدستوري.

_____________

شهدت السنغال في الفترة الأخيرة تصاعدًا في التوترات السياسية بين الرئيس باسيرو جوماي فاي ورئيس وزرائه عثمان سونكو، زعيم حزب “باستيف” الحاكم. وقد بدأت هذه الخلافات كتباين في الرؤى ، لكنها سرعان ما تحولت إلى أزمة -في ظرف وجيز- كادت أن تهدد استقرار التحالف الحاكم وتُضعف الثقة في الأداء الحكومي؛ بسبب التصريحات القوية والمواقف المتبادلة.

وفي خلفية هذه الأحداث، برز اختبار حقيقي لمدى متانة الثقة بين الشريكين في السلطة، بعد سنوات من التعاون الناجح في صفوف المعارضة. إذ إن جذور الخلاف تعود إلى التحديات التي فرضتها المشاركة في إدارة الحكم، مما أثر على مستوى الثقة بينهما وأدى إلى ظهور توترات متعددة الأشكال. ومع ذلك، بذل الطرفان جهودًا لاحتواء الأزمة وإعادة ترتيب الأوضاع، في محاولة للحفاظ على الاستقرار.

تهدف هذه المقالة إلى تقدير طبيعة بوادر الخلاف السياسي بين الرئيس باسيرو جوماي فاي ورئيس وزرائه عثمان سونكو، وتقييم تأثيرها على مستوى الثقة بين الحليفين، وما يترتب على ذلك من تداعيات.

كما ستسلط الضوء على العوامل الكامنة وراء تصاعد الخلاف، وأبرز مظاهره، ومحاولات احتوائه، والتداعيات المحتملة، وتوصيات عملية لتعزيز الحوار المؤسسي، وحماية المكاسب الديمقراطية لتحاشي انهيار الشراكة السياسية التي قادتهما إلى السلطة.

مفهوم اختبار الثقة في العلاقات السياسية

تواجه الثقة السياسية العديد من التحديات حالة الشراكة في الحكم بين قائدين، وتظهر الدراسات أن الثقة السياسية عنصر حاسم لاستقرار التحالفات، لكنها قد تتعرض للاهتزاز بسبب اختلاف الرؤى أو توزيع السلطة[1]. في حالة السنغال، تحوّل الخلاف من مجرد تباين في السياسات إلى أزمة هددت تماسك التحالف الحاكم، مما يؤكد أن غياب الثقة بين القادة يُضعف الأداء الحكومي ويُهدد الشرعية السياسية.

كما تشير نتائج الدراسات إلى أن الوعي السياسي يلعب دورًا في مستوى الثقة، لكن العلاقة بينهما قد تكون أضعف مما يُعتقد[2]. وفي السياق السنغالي، يبدو أن الخبرة المشتركة في المعارضة لم تمنع تصدع الثقة عند الانتقال إلى إدارة الحكم، مما يدعم فكرة أن الفجوة بين الشركاء قد تتسع بمرور الوقت تحت ضغوط الحكم. رغم محاولات احتواء الأزمة، تبقى هذه الحالة توضح حول كيف تُختبر الثقة السياسية في الأنظمة الائتلافية، وكيف تؤثر ديناميكيات القيادة على استقرارها.

بوادر الخلاف بين الرئيس فاي ورئيس ورائه قبل التصعيد

تُعد الأحزاب وجماعات الضغطِ قوىً مؤثرةً في صناعةِ السياسات، لكنّ تأثيرَها ليس دائمًا، بل يرتبطُ بدرجةٍ كبيرة بتفاعلِها معَ الرأي العام ومتطلباتِ الحملاتِ الانتخابية[3]. وقد أدركَ السياسيُّ عثمان سونكو – المُحروم من الترشحِ لانتخاباتِ الرئاسةِ عامَ 2024م – هذهِ الحقيقةَ، فعَمِل على تعزيزِ وجودِه السياسيِّ من خلالِ الحفاظِ على قاعدتِه الشعبيةِ عبرَ التعبئةِ المستمرة.

وساعد هذا التوجُّه في تحويلِ الأصواتِ المؤيدة لهُ إلى قوةٍ ضاغطة، مكَّنتْهُ من لعبِ أدوارٍ سياسيةٍ مؤثرةٍ في الرأي العام، مما أثارَ أشكالًا متعددةً من الخلافاتِ، تمثلتْ في التصريحاتِ الحادةِ والمواقفِ المتعارضة. وفيما يلي أبرزُ مظاهرِ الخلافِ بينَ الرئيسِ “جوماي” ورئيسِ الوزراءِ السنغاليِّ “عثمان سونكو”:

  • أولا: الخلاف حول التعيينات والسياسات الحكومية: منذ تولّي حزب “باستيف” زمام الحكم، شهدت الساحة السياسية مُعارضةً من قِبل قاعدتِه الشعبية لعدد من تعييناتِ الرئيسِ “جوماي فاي”[4]، لا سيّما تلك التي شملتْ شخصياتٍ من مؤيدي النظامِ السابق. وكان تعيين “سامبا انجاي” بتاريخ 23/10/2024م أبرزَ محطاتِ هذا الخلاف[5]، حيث تجلّى انقسامٌ في الرؤى الإدارية بين طرفي المعادلة، فمن جهةٍ، دعا رئيس الوزراء “سونكو” إلى اتخاذ الإجراءات التصحيحية المناسبة في أسرع وقت ممكن عبرَ منشورٍ على صفحتِه في “فيسبوك”، مؤكدا أن الرئيس “فاي” اتخذ القرار بناءً على اقتراح الحلفاء، ولم يكن على علم بالحقائق المُنددة[6]، ومن جهة أخرى، أصرّ الرئيسُ “فاي” على المضي قدماً من خلال “الوفاق ونسيان الماضي”[7]، في إطارِ سياسةِ المصالحةِ الوطنية. هذا التباين يكشف عن اختلاف حولَ المفاهيمِ السياسيةِ لتوزيعِ الأدوارِ داخلَ هيكلِ السلطة، وقد يرى سونكو أن بعض القرارات تُتخذ دون مشورته؛ يفسر ذلك تأكيده جهل الرئيس بالحقائق المؤدية إلى التنديد قبل التعيين، مما يؤثر سلبا في ثقة الشراكة في الحكم.
  •  ثانيا: الانتقادات العلنية: اختراق لثقافة التضامن الحكومي: شهدت الانتخابات التشريعية الأخيرة (17 نوفمبر 2024م) تصاعداً حاداً في التوترات السياسية بين التحالف الحاكم بقيادة رئيس الوزراء عثمان سونكو وأحزاب المعارضة[8]. بلغ هذا التصعيد ذروته بتصريح مثير لسونكو وصف فيه أداء حكومته بأنه “فشل في إدارة العنف” الذي ارتكبته المعارضة خلال الحملة الانتخابية[9]. جاء هذا التصريح محملاً بدلالات عميقة، حيث حمل في طياته اتهاماً ضمنياً بضعف التنسيق الأمني، كما مثّل انتقاداً غير مباشر للرئيس جوماي فاي كرأس للسلطة التنفيذية، فضلاً عن كونه خرقاً واضحاً لمبدأ التضامن الوزاري المنصوص عليه في الدستور. وحاول فرض سيطرته المباشرة على وزارتي الداخلية والعدل[10]، في خطوة غير مسبوقة تتعارض مع مبادئ النظام الجمهوري والتوازن الدستوري بين السلطات.

واتخذ هذا الانتقاد منحى خطابياً عبر استراتيجيات اتصالية شملت الاستعارة السياسية مثل قوله مخاطبا رئيس الجمهورية: “راجع نفسك حين يبدأ أعداءك بمدحك”[11]، في إحالة إلى نظرية المشروعية الثورية التي تؤكد على ضرورة بقاء القائد في صراع دائم مع المؤسسة.

ويرى البعض أن هذه الجرأة السياسية تعكس المكانة الخاصة التي يتمتع بها سونكو كرجل أوصل الرئيس إلى سدة الحكم حسب الرأي السائد، بينما يفسرها آخرون على أنها مجرد مناورة انتخابية تهدف إلى تعزيز موقفه أمام قاعدته الشعبية في خضم الصراع على النفوذ داخل التحالف الحاكم.

وقد كشف هذا المظهر السياسي بوادر خلاف داخل جبهة الحكم، أدى إلى تصاعده مع تجدد الأحداث – سنأتي إليه-. ويشير عن تناقضات في الرؤى السياسية وآليات إدارة السلطة داخل التحالف الحاكم نفسه.

تصعيد رئيس الوزراء عثمان سونكو الخلاف مع القضاء والرئاسة

في ظلِّ تصاعد التوترات السياسية في السنغال، برز رئيس الوزراء سونكو، زعيم حزب “باستف-الوطنيون” الحاكم، في مشهدين إعلاميين متتاليين يعكسان تصدُّعًا داخل التحالف الحاكم ويُذكّران بتباين المواقف بينه وبين الرئيس:

الخروج الأول: رفض المحكمة العليا الاستئناف وتهديد الطموحات الانتخابية

بعد ساعات من إعلان المحكمة العليا رفض استئنافه في قضية التشهير المرفوعة ضده من الوزير السابق مام مباي نيانغ يوم 1 يوليو 2025م[12]، خرج سونكو مُعلنًا نيَّته تقديم طلب قانوني جديد لـ”إعادة فتح الملف”، وأشار إلى أنها “مفتعلة” بما يهدد ترشحه في الانتخابات، لكنه شدَّد على أن “المعركة لم تنتهِ”، مُلمحًا إلى استمرار التحدي القضائي[13] رغم تهديد الحكم لأهليته الانتخابية في 2029؛ حيث يؤكد قرار المحكمة العليا الأخير بسقوط الأهلية الانتخابية لرئيس الوزراء عثمان سونكو وتغريمه 200 مليون فرنك أفريقي في قضية تشهير، “، ويمكن اعتبار هذا القرار النهائي عاملاً محورياً في تفاقم الخلاف بين الحليفين، خاصةً مع تأثيره المباشر على مستقبل سونكو السياسي. ومن المرجح أن يكون القرار القضائي قد فاقم حالة عدم الثقة بين الرئيس فاي وسونكو، حيث يحد من قدرة الأخير على المنافسة الانتخابية حتى 2030، وقد يفسر هذا الخلاف سبب خروج سونكو إعلاميًا مرتين في وقت قصير، معبرًا عن استيائه من الحكم واتهامه بأنه “مُوجّه سياسيًا”[14].

كما يُظهر الحكم هشاشة التحالف بين الطرفين، خاصةً مع إصرار سونكو على مواصلة المعركة القانونية، مما قد يزيد من الاحتقان، كما يطرح تساؤلات حول مدى دعم الرئيس فاي لرئيس وزرائه في هذه الأزمة، أو ما إذا كان الصمت الرئاسي مؤشرًا على تباعد في المواقف. وفي حال لم يجد الحليفان أرضية مشتركة، فقد يشهد المشهد السياسي تحولات كبرى، سواء عبر انسحاب سونكو أو تغيير التحالفات، ويمثل حكم المحكمة العليا اختبارًا حقيقيًا لثقة الحليفين.

الخروج الثاني: تشكيل المجلس الوطني وخطاب تصادمي مع الرئاسة

في خطوة مُفاجئة، شكَّل سونكو المجلس الوطني لحزبه بعد 11 عامًا من التأسيس بتاريخ 10 يوليو 2025م [15]، مُرسخًا شرعيته الداخلية رغم ضغوط المعارضة المطالبة باستقالته؛ لكن الحدث تحوّل إلى منصة للهجوم المباشر، حيث هاجم اتحاد القضاة ومنظمات المجتمع المدني، وتعهَّد بقطع التمويل الأجنبي عنها، في إشارة إلى محاولة تقليص نفوذها.

وصرح أنه لن يستقيل طالما يحظى بثقة الرئيس “فاي”؛ لكنه أشار إلى استعداده للعودة إلى البرلمان إذا سُحبت منه الثقة مؤكدًا أنه “يخضع لسلطة الرئيس ولن يغادر إلا بعزله مباشرة”[16]، ما يُظهر توتُّرًا جزئيا في العلاقة مع الرئيس فاي، ودعاه إلى “تحمُّل مسؤولياته” بلهجة شديدة، كاشفًا عن خلافات حول إدارة الحكم، ومُحذِّرًا من انقسامات داخل حزبه السياسي.

محاولات احتواء الأزمة وردود الفعل حيالها

أثرت مظاهر الخلاف بين الرئيس “فاي” ورئيس الوزراء “سونكو” سلبًا على الثقة السياسية بينهما، مما شكل اختبارًا لإدارة السلطة المشتركة في ظل الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد. ومع ذلك، اقتضت المصلحة السياسية احتواء هذا الخلاف وتجاوزه، ومناقشة أبعاده بعيدًا عن التصعيد العلني، وقد برزت خلال محاولات الاحتواء أصوات عديدة وردود أفعال حيال التصعيد من داخل جبهة الحكم، خاصة من بعض مؤيدي سونكو، الذين انتقدوا الرئيس واتهموه حتى بـ”الخيانة” تجاه حليفه الذي ساهم في وصوله إلى السلطة. وفيما يلي قراءة لأبرز محاولات احتواء الأزمة وحدودها:

أولا: النفي الرسمي للخلافات

سارع الرئيس الجمهورية وبعض الوزراء إلى نفي وجود أي خلاف جوهري، حيث أكد الرئيس أن العلاقة بينه وبين سونكو “أخوية ترتكز على التعاون من أجل مصلحة الشعب”، جاء ذلك خلال عرض نتائج الحوار الوطني في قصر الجمهورية بدكار مساء 14/7/2025م[17]، حيث شدد على ضرورة توحيد الجهود لمواجهة التحديات التي يعاني منها الشعب السنغالي.

وأوضح فاي أن الأولوية الآن هي العمل على حل الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية، معتبرًا أن “المعركة الوحيدة التي تستحق النضال” هي تحسين ظروف المواطن، بينما وصف وزير الوظيفة العامة السنغالي الانتقادات المتبادلة بأنها “نقاش داخلي طبيعي” ونفى أي خلاف بين الرئيس ورئيس الوزراء، واصفًا علاقتهما بأنها “ممتازة وتتجاوز العمل السياسي [18]؛ إلا أن هذه التصريحات بدت محاولة لتهدئة الرأي العام أكثر من كونها مؤشرًا على حل جذري.

ثانيا:جلسات الوساطة السرية

كشفت مصادر إعلامية غير رسمية عن عقد جلسات وساطة عاجلة بين الطرفين في القصر الرئاسي، بمشاركة شخصيات وسيطة مثل رئيس الجمعية الوطنية[19].

ورغم عدم الإعلان عن نتائجها، فإن هذه الخطوة تؤكد أن الخلاف بلغ مرحلة حرجة تستدعي تدخلًا مباشرًا لاحتواء تداعياته؛ حيث أنه في خروجه الإعلامي الثاني، اتخذ رئيس الوزراء عثمان سونكو خطوة تصعيدية عبر مطالبة الرئيس “فاي” بـ”تحمل مسؤولياته” والالتزام بالاتفاقيات المبرمة بينهما، والتي تم إشهادها رسميًا أمام رئيس البرلمان حينها.

ورغم إحجامه عن كشف تفاصيل تلك الاتفاقيات، فإن إشارته إلى وجود “مشكلة في السلطة”[20] تُعتبر اعترافًا غير مسبوق بوجود أزمة حكم داخلية، كما تعزز فرضية مشاركة رئيس البرلمان في الوساطات السرية التي بذلت لاحتواء الخلاف.

ثالثا:دعم حزبي متباين

تجلت ردود الأفعال داخل التحالف الحاكم من خلال مواقف متعارضة؛ حيث تضامن عدد من كبار أعضاء حزب باستيف والحكومة مع رئيس الوزراء عثمان سونكو بعد خطابه النقدي الحاد، بمن فيهم النائب غوي ماري سانيا الذي اتهم معارضين بتدبير “مؤامرة” لتشويه سونكو وإضعاف التحالف الرئاسي، محذرًا من محاولات تفريق الثنائي الرئاسي عبر إستراتيجية “فرّق تسد”[21]. كما أثار النائب “سانيا” – في سياق منفصل- جدلاً بتصريحه عن وجود “رئيس شرعي” (سونكو) و”رئيس قانوني” (فاي)[22]، مما فسره البعض كتأكيد على الشرعية الشعبية لسونكو رغم استبعاده الانتخابي، بينما اعتبره آخرون إهانةً للرئيس.

هذه التصريحات، إلى جانب دعم شخصيات مثل الصحفي باب آلي نيانغ[23] والمدير العام لميناء داكار والي بوجان[24]، وإعلان الحركة النسائية في حزب “باستيف” دعمها الكامل لسونكو في خروجه الإعلامي؛ حيث جاء البيان مركزا على رفض الانقسامات و”المناورات المشبوهة”، والتعهد بدعم إجراءات الحكومة[25]، ويعكس هذا الدعم تحديًا لتماسك التحالف، وتُظهر قوة سونكو الشعبية التي تجلت في تفاعلات وسائل التواصل الاجتماعي بين النقد والتأييد.

رابعا: ترتيب الأوضاع: إجراءات لاستعادة الثقة

في محاولة لاحتواء التصدع السياسي[26]، بذل الطرفان جهودًا ملموسة لترتيب الأوضاع، تمثلت في التضامن عبر الدبلوماسية من خلال زيارة رئيس الوزراء سونكو التاريخي إلى تركيا (6-10 أغسطس 2025) لتعزيز الشراكة الاستراتيجية، والتي جاءت بعد أشهر من زيارة الرئيس فاي لأنقرة[27]، وتظهر هذه الخطوة المشتركة تنسيقًا ظاهريًا بين القيادتين، رغم مظاهر التوترات الداخلية المذكرة سلفا، تعكس التزامهما لتنفيذـ”رؤية السنغال 2050م.

كما أن الإعلان المشترك لخطة “جوبانتي كوم” للإنعاش الاقتصادي (1 أغسطس 2025) بحضور الرئيس فاي وإشادته بالخطة ودعوته إلى “الوحدة الوطنية”[28]، والتي تستهدف معالجة العجز المالي (14% من الناتج المحلي)، والدين العام (119% من الناتج)، والبطالة (20%) والفقر (36%)، في إشارة إلى محاولة طي صفحة الخلاف.

لحظة توقيع “اتفاقية التعاون والإنتاج المشترك للأفلام والوسائط السمعية والبصرية والوسائط المتعددة (ملتيميديا) بين حكومتي تركيا والسنغال” في أغسطس 2025 في تركيا.

لحظة توقيع "اتفاقية التعاون والإنتاج المشترك للأفلام والوسائط السمعية والبصرية والوسائط المتعددة (ملتيميديا) بين حكومتي تركيا والسنغال" في أغسطس 2025 في تركيا.
لحظة توقيع “اتفاقية التعاون والإنتاج المشترك للأفلام والوسائط السمعية والبصرية والوسائط المتعددة (ملتيميديا) بين حكومتي تركيا والسنغال” في أغسطس 2025 في تركيا.

تداعيات الثقة السياسية الهشّة على الاستقرار السياسي والاقتصادي

تُعد الثقة السياسية الهشة بين القيادات الحكومية تهديدًا مباشرًا للاستقرار الحكومي، حيث يُمكن أن تؤدي حالة التصاعد المستمر إلى تفاقم الأزمة ودفع الرئيس إلى إقالة رئيس الوزراء، وهو سيناريو قد يُفجر أزمة ثقة داخل التحالف الحاكم. فتصريح رئيس الوزراء بأنه “لن يستقيل إلا إذا سُحبت منه ثقة الرئيس” [29] يُظهر احتمال وقوعها، وإذا ما عاد الصراع إلى البرلمان كما أشار “سونكو”، فقد يتحول إلى مواجهة تشريعية مفتوحة تُضعف أداء الحكومة وتُعطل صنع القرار.

ولا تقتصر تداعيات هذا التوتر على الجانب السياسي فحسب، بل تمتد إلى الاقتصاد والاستثمار، حيث حذّر الرئيس من أن الاستقرار السياسي هو عامل جذب رئيسي للمستثمرين[30]. وقد بدأت هذه التحذيرات تترجم على أرض الواقع، مع تخفيض التصنيف الائتماني للسنغال[31]، مما أثر سلبًا على صورة البلاد وثقة الشركاء الدوليين، هذا الوضع يُنذر بتباطؤ النمو الاقتصادي وتراجع الاستثمارات الأجنبية في وقت تحتاج فيه البلاد إلى تعزيز اقتصادها.

أما على صعيد الديمقراطية والحريات، فإن تصاعد القمع الإعلامي وملاحقة الصحفيين، كما في قضية “بادارا غاجاغا”[32]، يُنذر بتراجع الحريات العامة. كما أن الهجوم المستمر على القضاء والمجتمع المدني يُهدد المكاسب الديمقراطية التي تحققت في السنوات الأخيرة. فبدلًا من أن تكون السلطة المشتركة نموذجًا للتعاون، تتحول إلى ساحة صراع تُستخدم فيها المؤسسات كأدوات للضغط السياسي، مما يُضعف دولة القانون ويُعرض الحريات الأساسية للخطر.

الخلاصة والتوصيات

شهدت السنغال أزمة ثقة بين الرئيس “فاي” ورئيس الوزراء “سونكو”، تحولت من خلاف سياسي إلى تهديد لاستقرار التحالف الحاكم. وتجلت الأزمة في انتقادات علنية، وتصريحات مثيرة للجدل حول “الشرعية المزدوجة”. رغم محاولات احتواء الأزمة عبر وساطات ونفي رسمي، إلا أن تداعياتها قد تؤثر على الاقتصاد والمؤسسات الديمقراطية، وفيما يلي أهم التوصيات

  1. تعزيز الحوار المؤسسي لترسيم حدود السلطات: يُوصى بترسيخ آليات حوار دائمة بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء لضبط العلاقة التنفيذية وفق قواعد الدستور، وتحديد خطوط، واضحة للصلاحيات، والمسؤوليات. إن بناء مسار مؤسسي يضمن توزيع السلطة بشكل متوازن يحد من التأويلات المتضاربة، ويُسهم في تجنّب النزاعات البينية التي تُضعف الأداء الحكومي وتُشوّش على رسائل الاستقرار الخارجي.
  2. تفعيل آليات الوساطة الداخلية لحل الخلافات: ينبغي اعتماد الوساطة السياسية كأداة دائمة لحلحلة التباينات داخل التحالف الحاكم. إن تأطير الخلافات ضمن قنوات الوساطة الهادئة يُسهم في نزع فتيل الأزمات، ويمنع تحوّلها إلى صدامات تُضعف ثقة المواطنين والمؤسسات الدولية بالحكم التشاركي.
  3. تجنب التصعيد الإعلامي للحفاظ على الاستقرار: يتعين ضبط الخطاب السياسي، وتجنب التراشق الإعلامي بين شركاء الحكم، خصوصًا في الأوقات الحرجة. إن ظهور الخلافات على الساحة الإعلامية، خاصة عبر المنصات الاجتماعية، يخلق انطباعًا دوليًا بعدم الانسجام، ويزيد من هشاشة الوضع الداخلي. التوافق على قواعد اتصال استراتيجي منضبط يمثل ضرورة لحماية صورة الدولة، داخليًا وخارجيًا.
  4. التركيز على الأولويات الاقتصادية لاستعادة ثقة المواطنين والمستثمرين: في ظل التحديات الاقتصادية المتزايدة، من الضروري توجيه الطاقات السياسية نحو تنفيذ برامج الإنقاذ الاقتصادي، مثل خطة “جوبانتي كوم”، والعمل على تحسين مناخ الاستثمار، وتخفيف العجز المالي، وتقليص الدين العام. إن تعافي الاقتصاد يُشكّل قاعدة صلبة لتجديد الثقة الشعبية والدولية، ويُقلّل من فرص استغلال التوترات السياسية داخليًا وخارجيًا.
  5. حماية المكاسب الديمقراطية عبر احترام استقلالية القضاء والمجتمع المدني: ينبغي صون استقلال المؤسسات الدستورية، لا سيما القضاء، وتعزيز دور المجتمع المدني كطرف ضامن للتوازن الديمقراطي. إن محاولات التسييس أو الإقصاء تقوّض المكتسبات الديمقراطية، وتُعرّض البلاد لموجات من التراجع الحقوقي، ما يُثير قلق الشركاء الدوليين ويُضعف مكانة السنغال كدولة نموذجية للاستقرار في غرب إفريقيا.

وفي نهاية المطاف، يمكننا أن نخلص إلى أنّ   الحزب الحاكم “باستيف” لقد شكّل في بداياته وعدًا سياسياً بتجديد الدولة وبناء نموذج حكم أكثر صدقية وفاعلية، إلا أن الخلافات الراهنة بين رأسَي السلطة التنفيذية تضع هذا الوعد على المحك. فالرهان لم يعُد فقط على من يُمسك بزمام القيادة، بل على قدرة مؤسسات الدولة على الصمود أمام التجاذبات، والوفاء بآمال الملايين ممن صوّتوا على التغيير.

إن الحفاظ على المكتسبات الديمقراطية التي أنجزتها السنغال عبر عقود، وتفادي السقوط في دوامة الانقسام السياسي، يتطلب وعياً عميقاً بحدود الخلاف المشروع، وتمسكاً صارماً بأدبيات الشراكة والمسؤولية المشتركة. وحدها الدولة القادرة على تنظيم خلافاتها داخلياً، واحتوائها ضمن الأطر الدستورية، هي التي تملك المقومات الحقيقية للقيادة والنهوض.

وإذا كان الشارع قد أدّى دوره في إحداث التحوّل السياسي عبر صناديق الاقتراع، فإن مسؤولية تثبيت هذا التحوّل واستثماره تقع اليوم على عاتق من جلسوا على كرسي القرار. فالخلاف، مهما بلغ حجمه، يجب ألّا يطغى على حجم التحديات ولا يُنسينا بوصلة الإصلاح التي انتُخبوا من أجلها.

_______________

الهوامش والإحالات

[1] Political Trust and Sophistication: Taking Measurement Seriously – PMC

[2] Political Trust and Sophistication: Taking Measurement Seriously – PMC

[3] The Impact of Political Parties, Interest Groups, and Social Movement Organizations on Public Policy: Some Recent Evidence and Theoretical Concerns on JSTOR

[4] Pétition contre Samba NDIAYE : Plus de 3000 signatures en 2 heures — Walf NET

[5] Les nominations en Conseil des ministres du mercredi 23 octobre 2024 – Xibaaru

[6] OUSMANE SONKO SE PRONONCE SUR L’AFFAIRE SAMBA NDIAYE | SenePlus

[7] Nomination de Samba Ndiaye : “Ce que je vais faire”, Bassirou Diomaye Faye prend sa décision

[8] ÉLECTIONS LÉGISLATIVES AU SÉNÉGAL : UN SYSTÈME DE VOTE COMBINÉ POUR UNE REPRÉSENTATION ÉQUITABLE

[9] Législatives au Sénégal : le premier ministre appelle à venger ses militants « agressés »

[10] Sonko interpelle les ministres de l’Intérieur et de la Justice : « 03 agressions et 00 arrestations… » L’État a failli… Pastef peut régler lui-même ses problèmes ! »

[11] Sonko interpelle les ministres de l’Intérieur et de la Justice : « 03 agressions et 00 arrestations… » L’État a failli… Pastef peut régler lui-même ses problèmes ! »

[12] Sénégal : la justice confirme la condamnation du Premier ministre Ousmane Sonko pour diffamation –

[13] Notre lecture de la sortie de Ousmane Sonko: entre jurisprudence dangereuse et exigence de vérité (Par Hady TRAORE)

[14] Rabat d’arrêt dans l’affaire Ousmane Sonko-Mame Mbaye Niang : la Cour suprême rejette la requête de la défense – Sud Quotidien

[15] PASTEF : installation de son Conseil national, onze ans après sa création

[16] CONSEIL NATIONAL DE PASTEF : OUSMANE SONKO AFFIRME SA LÉGITIMITÉ ET SA VOLONTÉ DE GOUVERNER

[17] Le président sénégalais réfute l’existence de tout «conflit» entre lui et le Chef du gouvernement, Sonko – Le Courrier stratégique

[18] Le ministre Olivier Boucal dément toute tension entre Diomaye Faye et Ousmane Sonko

[19] Tensions au sommet de l’État : Des médiations discrètes entre Diomaye et Sonko pour préserver l’unité gouvernementale – LE DAKAROIS

[20] ‘Un problème d’autorité au Sénégal’: Ousmane Sonko et Bassirou Diomaye Faye, la fin de l’idylle? | TV5MONDE – Informations

[21] Guy Marius Sagna dénonce un complot contre Ousmane Sonko et le Président Diomaye Faye

[22] Président “légitime” : Madiambal “signale” Guy Marius au pro… | Seneweb –

[23] https://senego.com/pape-ale-niang-sonko-a-parfaitement-raison-le-principal-probleme-du-senegal-cest-sa-justice_1855114.html

[24] Waly Diouf Bodian prévient Sonko et Diomaye : « Nous allons vers des surprises »

[25] Soutien à Ousmane Sonko : Le Mouvement des femmes de PASTEF appelle à l’unité et à la discipline

[26] Ousmane Sonko Appelle à Unité au Sein de Pastef – Senegal

[27] Senegal Prime Minister Sonko to visit Türkiye for strategic partnership talks – Türkiye Today

[28] Ousmane Sonko dévoile le Plan de redressement économique et social du Sénégal • Netcomsn

[29] APRNEWS: Ousmane SONKO refuse de démissionner et s’en prend à Bassirou Diomaye Faye – APR-NEWS.FR

[30] RÉACTION DE DIOMAYE APRÈS LA SORTIE DE SONKO – “Si nous voulons développer ce pays, attirer des investisseurs, il faut….” | Nettali.com

[31] La note de crédit du Sénégal encore abaissée, les choses se compliquent pour le gouvernement

[32] Badara Gadiaga envoyé en prison !

كاتب

  • عبدرالرحمن كان

    أكاديمي سنغالي متخصص في القانون المقارن. وباحث مهتم بالشأن الإفريقي الحقوقي والاجتماعي

عبد الرحمن كان

أكاديمي سنغالي متخصص في القانون المقارن. وباحث مهتم بالشأن الإفريقي الحقوقي والاجتماعي

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى