التكامل السياسي والإقليمي

زيارة الرئيس الصومالي إلى مصر: مجاملة دبلوماسية تخفي رؤى متباينة وصراعات مكتومة

في خضم بيئة إقليمية معقدة تتشابك فيها الحسابات الجيوسياسية، وتتصاعد فيها وتيرة التنافس على النفوذ في منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر، جاءت زيارة الرئيس الصومالي الدكتور حسن شيخ محمود إلى مدينة العلمين المصرية بدعوة من الرئيس عبد الفتاح السيسي؛ لتكشف بجلاء عن المفارقات العميقة بين الخطاب البروتوكولي والمواقف الفعلية، بين مجاملة الدبلوماسية وظلال التوجس الاستراتيجي.

فرغم الحفاوة الرسمية والاستقبال الرفيع الذي حظي به الوفد الصومالي، فإن مضمون اللقاءات المغلقة، وتصريحات الجانب المصري، أوحت بوجود فجوة في الرؤى وتباين في المصالح، خاصة فيما يتعلق بالتحالفات الإقليمية، والموقف من النزاع المصري الإثيوبي حول سد النهضة، ودور مصر العسكري في الصومال في إطار التعاون الثنائي ومشاركة مصر لقوات حفظ السلام الإفريقية.

إنّ الذهنية الصومالية، التي تشكلت في سياق هش من الصراعات الداخلية، وضغوط الفاعلين الدوليين، والتوازنات المعقدة بين القوى الإقليمية، تميل – بحكم الضرورة – إلى الحذر المفرط، والمراوغة السياسية، واعتماد سياسة خارجية مرنة تتحاشى الاصطفافات الحادة، وتراهن على التوازن بين المحاور المتنافسة.

وهو ما بدا جلياً في سلوك القيادة الصومالية خلال هذه الزيارة، إذ فضّلت الصمت الإستراتيجي على الانخراط في مواقف علنية قد تضعها في مواجهة محتملة مع أطراف نافذة، أو تربك حساباتها الداخلية.

لكن هذا النهج الذي يتفادى الصدام لا يخلو من كلفة سياسية، إذ يُضعف من صدقية الموقف الصومالي، ويغذّي الشكوك حول التزام مقديشو بتحالفاتها، ويثير الريبة لدى شركاء تقليديين مثل القاهرة، الذين يرون في الغموض السياسي تهديداً ضمنياً لمصالحهم الحيوية.

من هنا، تهدف هذه المقالة إلى تسليط الضوء على أبعاد زيارة الرئيس حسن شيخ محمود إلى مصر، واستقراء ما وراء المجاملات الدبلوماسية، من خلال تحليل الخطاب، ورصد المواقف، وقراءة السلوك السياسي الصومالي في ضوء تعقيدات الداخل وموازين الإقليم، مع طرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل الشراكة المصرية – الصومالية، وجدوى الرهان على تحالفات غير مستقرة في زمن التشظي الإقليمي.

السياق الإقليمي والدولي للزيارة

جاءت زيارة الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود إلى مدينة العلمين المصرية وسط تحولات إقليمية معقدة في القرن الأفريقي، خاصة تصاعد التوتر بين الصومال وإثيوبيا، وخلافات متعلقة بسد النهضة، بالإضافة إلى مساعي مصر لتعزيز حضورها الاستراتيجي في البحر الأحمر والقرن الأفريقي.

أولا: تحولات القرن الأفريقي

  • تصاعد التنافس على الموانئ والنفوذ في البحر الأحمر.
  • الاتفاق الإثيوبي مع “أرض الصومال” وتأثيره على الأمن الإقليمي.
  • تراجع دور بعض القوى التقليدية وصعود لاعبين جدد (تركيا، قطر، الإمارات، السعودية، الصين).

ثانيا: موقع الصومال في خارطة التوازنات

  • محاولة مقديشو الخروج من العزلة عبر علاقات متعددة الاتجاهات.
  • ضغوط داخلية (سياسية وعشائرية) تعرقل بناء موقف خارجي موحد.
  • تحديات بناء الدولة وتثبيت الشرعية الفيدرالية.

أبرز القضايا الخلافية التي طفت على السطح خلال زيارة الرئيس الصومالي إلى مصر:

1. التحالف الثلاثي (مصر – الصومال – إريتريا)… بين الطموح والواقع

يبدوا أن القاهرة كانت تأمل في تعزيز التنسيق الثلاثي مع الصومال وإريتريا، ضمن جهودها لإعادة تشكيل توازنات الإقليم، ومواجهة تنامي النفوذ الإثيوبي، خاصة في ظل تعنّت أديس أبابا في ملف سد النهضة. إلا أن الموقف الصومالي لم يرتقِ إلى مستوى التطلعات المصرية، حيث بدا ـ وبحسب مصادر دبلوماسية مصرية ـ “غامضًا ومتذبذبًا”، ولم يُظهر حماسة كافية أو التزامًا واضحًا تجاه هذا التحالف.

الأكثر إثارة للقلق في القاهرة هو ما تردد عن وجود مساعٍ صومالية للتقارب مع إثيوبيا، وهو ما فُسِّر باعتباره تراجعًا عن تفاهمات سابقة بين مقديشو والقاهرة، بل وخروجًا عن الإطار السياسي الذي حاولت مصر بناؤه في منطقة القرن الإفريقي.

2. مشاركة القوات المصرية في بعثة الاتحاد الإفريقي: دعم حقيقي أم تموضع محسوب ؟

يُعد ملف مشاركة مصر العسكرية والشرطية في بعثة الاتحاد الإفريقي الجديدة في الصومال (التي ستحل محل بعثة ATMIS) من أبرز القضايا الحساسة التي طُرحت خلال زيارة الرئيس الصومالي إلى القاهرة.

ففي الوقت الذي أبدت فيه مصر استعدادًا واضحًا للمساهمة في دعم استقرار الصومال عبر إرسال قوات ضمن البعثة، فوجئت بما وصفته بـ “تباطؤ غير مبرر” من جانب الحكومة الصومالية في استكمال الترتيبات الفنية واللوجستية المطلوبة، وعلى رأسها إصدار التراخيص اللازمة.

ورغم تبرير مقديشو لهذا التباطؤ بضرورة التنسيق مع شركاء دوليين آخرين لضمان التوازن في المشاركة، اعتبرت القاهرة ذلك شكلًا من أشكال المماطلة السياسية، يُضعف الثقة، ويعطّل مسار التعاون الإقليمي، ويفتح الباب أمام قوى أخرى لملء الفراغ الأمني، وهو ما قد يؤدي إلى تراجع جدية مصر في مواصلة هذه الشراكة ما لم يتم تجاوز العراقيل القائمة.

3. سد النهضة و”الحياد الصومالي المربك”

يُعد ملف سد النهضة من أكثر القضايا حساسية بالنسبة لمصر، التي كانت تأمل في الحصول على دعم واضح وصريح من شركائها الإقليميين، وفي مقدمتهم الصومال، لتعزيز موقفها في مواجهة تعنّت إثيوبيا.

إلا أن التصريحات التي أدلى بها الرئيس حسن شيخ محمود خلال زيارته الأخيرة إلى مصر جاءت باهتة وفضفاضة، واتسمت بقدر كبير من الحياد والغموض، ما اعتبرته دوائر مصرية “خذلانًا غير مبرر” لحليف تاريخي ( وفقا لمصادر مطلعة)

هذا الموقف أربك التوقعات المصرية، وجرى تفسيره على أنه محاولة للتهرب من التزامات سياسية وأخلاقية تجاه مصر، خصوصًا في ظل ما يجمع البلدين من علاقات متجذرة ومصالح مشتركة.

وقد عزّز هذا الغموض من الانطباع في القاهرة بأن الصومال لا يتصرف كحليف استراتيجي، بل يسعى إلى الحفاظ على توازن هشّ في علاقاته الإقليمية، حتى وإن جاء ذلك على حساب موقف مصر، التي كانت تتوقع موقفًا أكثر وضوحًا وجرأة من مقديشو.

ليس في مصلحة الصومال أن يظهر بمظهر “الحليف المتقلب” الذي يُداري الجميع دون أن يُرضي أحدًا أو يحقق هدفا.

وختاماً، تكشف زيارة الرئيس حسن شيخ محمود إلى مصر عن أزمة أعمق من مجرد خلاف دبلوماسي عابر؛ إنها انعكاس لحالة التردد الاستراتيجي التي تعاني منها السياسة الخارجية الصومالية في ظل بيئة إقليمية معقدة، واستقطاب دولي متزايد، وهشاشة داخلية ما زالت تحرم الدولة من امتلاك قرار وطني مستقل وفاعل.

فالرسائل الغامضة التي حملتها هذه الزيارة، سواء بالصمت أو التحفظ، لا تعبّر فقط عن تخوّف من الاصطفاف، بل تشير إلى غياب تصور واضح للمصلحة القومية العليا للصومال في سياق شراكة إقليمية بنّاءة، وفي وقت تحتاج فيه البلاد إلى تحالفات قوية وواضحة لتجاوز محنة العقود الطويلة من التآكل المؤسسي والتدخلات الخارجية.

لقد أظهرت القاهرة خلال هذه الزيارة استعداداً سياسياً وأمنياً واقتصادياً للدخول في شراكة استراتيجية مع مقديشو، لكن غياب ردّ مكافئ من الجانب الصومالي أضعف من زخم الزيارة، وأكد لمصر – ولغيرها من الفاعلين الدوليين – أن الصومال لا يزال يُدار بمنطق رد الفعل، وليس برؤية مبنية على المصالح الوطنية العُليا.

ومن هنا، فإن المخرج الأساسي من هذا المسار المتردد يتطلب تبني استراتيجية وطنية شاملة، تقوم على ثلاثة مرتكزات رئيسية:

أولاً: تصفير الأزمات الداخلية وتقوية الجبهة عبر الحوار الوطني الجاد والمشاركة السياسية

حل المشكلات السياسية بين الحكومة الفيدرالية والولايات عبر حوار جاد وشفاف، يقدم المصالح العليا للبلاد وتأسيس أرضية دستورية تضمن المشاركة السياسية والتمثيل العادل.

توحيد القوى الأمنية والعسكرية تحت مظلة وطنية، عبر بناء جيش وشرطة وأمن وطني غير مسيّس، قادر على بسط سيادة الدولة ومواجهة التهديدات الإرهابية.

فرض سيادة القانون وبناء مؤسسات مستقلة تمثل كل مكونات المجتمع، لضمان شرعية القرار الداخلي والخارجي.

ثانياً: ترشيد السياسة الخارجية وتثبيت التوجه الاستراتيجي

لا يمكن أن تكون السياسة الخارجية الصومالية رهينة لتكتيكات اللحظة أو الضغوط العابرة، بل يجب أن تنطلق من تحديد أولويات المصلحة الوطنية العليا.

إعادة التوازن للسياسة الخارجية الصومالية عبر خلق شبكة تحالفات ثابتة ومتنوعة، قائمة على المصالح لا الولاءات، وعلى التعاون لا التبعية.

استعادة ثقة الحلفاء التقليديين، وفي مقدمتهم مصر، من خلال مواقف واضحة وصادقة في القضايا الاستراتيجية مثل الأمن البحري، مكافحة الإرهاب، وسد النهضة.

ثالثاً: استخدام القوة كأداة سيادية لفرض هيبة الدولة

لا تُحترم الدول في بيئات مضطربة مثل القرن الأفريقي إلا إذا امتلكت أدوات الردع وحماية السيادة كما أظهرت التجربة السودانية، فإن الجيش الوطني، رغم كل التحديات، يظل “كلمة السر” في الحفاظ على الدولة، وليس الأنظمة فقط.

على الصومال أن يبني قوته الذاتية قبل أن يطلب الاحترام من الخارج، وأن يدرك أن كسب الأصدقاء يبدأ من الداخل، حيث لا يُمكن لحليف خارجي أن يراهن على دولة لا تحمي نفسها.

الرؤية المستقبلية

إذا أرادت القيادة الصومالية أن تعيد رسم صورتها إقليميًا، وتخرج من مربع الغموض والتقلب والتردد، فعليها أن تتصرف كدولة ذات مشروع وطني، لا كحكومة تبحث عن التمويل والمواقف المؤقتة.

ينبغي أن يكون الخطاب السياسي أكثر وضوحًا، والمواقف أكثر حسمًا، والتحالفات أكثر اتزانًا.
أما التردد الدائم فهو أقصر الطرق نحو فقدان ثقة الحلفاء وفتح الباب أمام الخصوم للتسلل إلى المشهد السياسي والاقتصادي والأمني الصومالي.

إنّ بناء شراكة متوازنة مع مصر، ودول الإقليم الأخرى، ينبغي أن يكون جزءاً من استراتيجية صومالية متكاملة تعيد تعريف الأولويات، وترتّب الحلفاء، وتدير الملفات بسيادة وحنكة. فليس في مصلحة الصومال أن يظهر بمظهر “الحليف المتقلب” الذي يُداري الجميع دون أن يُرضي أحدًا أو يحقق هدفا.

كاتب

د. عبد القادر غولني

أكاديمي، وباحث متخصص في الشؤون السياسية، والدراسات الصومالية.
زر الذهاب إلى الأعلى