إغلاق القاعدة العسكرية الفرنسية في السنغال بعد 65 عامًا: تحوّل في الجغرافيا السياسية لغرب إفريقيا
إنّ إغلاق القاعدة العسكرية الفرنسية في السنغال يشكّل حدثًا مفصليّاً في تاريخ العلاقات الإفريقية–الفرنسية، ويكشف عن تحوّل متسارع في موازين النفوذ الإقليمي في غرب إفريقيا. فبعد 65 عامًا من التواجد العسكري الدائم، أعادت فرنسا آخر قواعدها إلى السيادة السنغالية في مشهد يحمل أبعادًا سياسية وتاريخية تتجاوز السنغال نحو فضاء الساحل الإفريقي الأوسع.
وتأتي هذه الخطوة في ظل تنامي موجة الرفض الشعبي والرسمي للوجود الفرنسي في عدد من دول إفريقيا جنوب الصحراء، على خلفية اتهامات بالاستمرار في ممارسة أنماط نفوذ ما بعد الاستعمار، وهو ما أطلقتْ عليه العديد من الحركات الشبابية والمدنية مصطلح “النيوكولونيالية“، أيْ الاستعمار الجديد.
ففي السنغال تحديدًا، كان مطلب إنهاء القواعد العسكرية جُزْءاً من خطاب السيادة الذي تبناه الرئيس الشاب بشيرو جومايْ فاي، والذي تعهّد بإغلاق جميع القواعد الأجنبية على التراب الوطني السنغالي بحلول عام 2025م.
وبالتالي، يهدف هذا المقال إلى تقديم قراءة تحليلية لتداعيات إغلاق القاعدة الفرنسية في السنغال، وذلك من خلال فهم خلفياته السياسية والتاريخية، واستشراف انعكاساته على أمن المنطقة وتوازنات الشراكة الدولية الجديدة في إفريقيا.
ولتحقيق هذا الهدف، سيناقش المقال ثلاث نقاط رئيسة، وهي:
- الجذور التاريخية للوجود العسكري الفرنسي في السنغال وعلاقته بمنظومة “فرانس-أفريك”
- الدوافع السياسية والشعبية التي قادت إلى قرار الإغلاق.
- تداعيات الانسحاب الفرنسي على الأمن الإقليمي والبدائل الجيوسياسية المحتملة.
الجذور التاريخية للوجود العسكري الفرنسي في السنغال
منذ حصول السنغال على استقلالها في عام 1960م، ارتبط الحضور الفرنسي العسكري بهذه الدولة ضمن إطار علاقة “فرانس-أفريك” (Françafrique) بين باريس وعمقها الإفريقي. وشكّلت القواعد مثل كامب جيل في داكار رمزًا للتحالف الأمني والتعاون العسكري وطريقة فرنسا في تأمين نفوذها في غرب إفريقيا.
ورغم أنّ هذه الشراكة ترافقت مع عمليات مكافحة الإرهاب وتدريبات مشتركة، إلا أنها نجد عليها جدلًا مستمرًا بسبب ما اعتُبِر نمطًا من نفوذ ما بعد الاستعمار.
جاء إغلاق القاعدة العسكرية الفرنسية في السنغال استجابة لتحوّل داخلي عميق، عبّر عن إرادة سياسية وشعبية متزايدة لفك الارتباط مع النفوذ الفرنسي.
وعلى مدار العقود، كانت اتفاقيات شراكة الدفاع تُجدّد لتثبيت وجود فرنسا العسكري طويل الأمد. لكن، بدأت هذه القاعدة بالتراجع تدريجيّاً مع تصاعد الاستياء الشعبي والسياسي من إغلاق القاعدة العسكرية الفرنسية في السنغال، الذي بدأ يأخذ صبغة مطلب سيادي، خاصة مع ظهور أحزاب جديدة وشبابية تدعو لاستقلال القرار الوطني عن النفوذ الفرنسي.
وفي عام 2024، قادت تصريحات رئيس الوزراء عثمان سونكو حملات ضد القواعد الأجنبية، واتهم الوجود الفرنسي بتقييد “السيادة والاستقلال الاستراتيجي” للسنغال.
وراحت هذه الدعوات تترجم على أرض الواقع، حين شارك الشعب في احتجاجات مناهضة للقاعدة العسكرية، مؤكدين أنّ إغلاق القاعدة العسكرية الفرنسية في السنغال أصبح مطلباً شعبيّاً يتخطى مجرد قرار سياسي رسمي.
وأخيرًا، جاء التلاقي بين المطلب الشعبي، والرغبة الرسمية بوضوح في قرار الرئيس بشيرو جوماي فايْ عام 2024م بإغلاق القواعد الأجنبية بحلول 2025م.
وتجسدت هذه الرؤية عمليّاً مع بدْء فرنسا في عملية نقل القواعد الفرنسية، وبدْءِ انسحابها في مارس 2025م، وصولًا إلى إغلاق القاعدة العسكرية الفرنسية في السنغال وتسليمهما رسميّاً في يوليو 2025م.
دوافع إغلاق القاعدة العسكرية الفرنسية في السنغال
لقد جاء إغلاق القاعدة العسكرية الفرنسية في السنغال استجابة لتحوّل داخلي عميق، عبّر عن إرادة سياسية وشعبية متزايدة لفك الارتباط مع النفوذ الفرنسي. وتقوم هذه الخطوة على ثلاثة دوافع أساسية، وهي: قرار وطني لتعزيز السيادة، وضغط شعبي رافض للوجود الأجنبي، واستدعاء للذاكرة التاريخية في مواجهة الامتداد الكولونيالي. فيما يلي، توضيح لهه النقاط الثلاثة:
- قرار وطني لتعزيز السيادة: شكلت القوة السياسية لحزب الرئيس بشيرو جوماي فايْ، الذي تعهّد خلال حملته بإتمام إغلاق القاعدة العسكرية الفرنسية في السنغال بحلول 2025م، عاملًا محوريًا في اتخاذ القرار. وأكّد فاي على أنّ وجود قواعد أجنبية “غير متوافق مع السيادة” وأنّ بلاده تعمل على “تعزيز قدرات قواتها المسلحة”. فجاء هذا الإعلان كإشارة واضحة على انتقال إرادة قيادة السنغال من الحفاظ على شبكات نفوذ ما بعد الاستعمار إلى تعزيز الاستقلال الكامل في القرار الدفاعي.
- ضغط شعبي وسياسي متنامٍ: تزايدت الأصوات المناوئة لوجود فرنسا في غرب إفريقيا بشكل عام، خاصة بعد موجة احتجاجات عام 2021م، التي طالبت بإنهاء النفوذ الفرنسي الاقتصادي والعسكري، وتجسّد ذلك من خلال هجمات استهدفت شركات فرنسية، وانتشار خطاب يطالب بإعادة التوازن الاستراتيجي. فحرّك هذا المناخ الاحتجاجي السياسيين، مثل وزير الدفاع، ورئيس الوزراء عثمان سونكو، اللذان انتقدا بشدة وجود قوات أجنبية، مؤكدين أنّ إغلاق القاعدة العسكرية الفرنسية في السنغال أصبح مطلبًا شعبيًا يستند إلى مبدأ الدولة المستقلة.
- استدعاء التاريخ وجرف النفوذ الفرنسي: أعاد النقاش العام مناقشة قضية مظاهرات “Thiaroye” عام 1944م التي قتل فيها عدد من الرماة السنغاليين على يد القوات الفرنسية، ما دفع الرئيس الفرنسي ماكرون للاعتراف بها كمجزرة تاريخية. هذا التصريح التاريخي، عزّز الرغبة في النأيِ بالسنغال عن النفوذ الفرنسي، ورافعياً على ذاكرتها الكولونيالية. وعليه، جاء إغلاق القاعدة العسكرية الفرنسية في السنغال ضمن موجة انسحاب شامل من عدة دول بغرب ووسط إفريقيا، ما يشير إلى تراجع نمط “فرانس-أفريك” الفرنسي التقليدي.
تداعيات إغلاق القاعدة العسكرية الفرنسية في السنغال
إنّ إغلاق القاعدة العسكرية الفرنسية في السنغال، يفتح آفاقاً لإعادة هيكلة الأمن الإقليمي؛ حيث تُعتمد هذه اللحظة للتوجه نحو قدرات دفاعية وطنية أكثر استقلالية.
وسيعمل الجيش السنغالي على ملء الفراغ الأمني الذي خلفته القاعدة الفرنسية، ما يعزز الجهود المحلية لمكافحة الإرهاب والجرائم العابرة للحدود دون الاعتماد على الدعم الخارجي. وقد سبق لمسؤولين سنغاليين وأفارقة أنْ أكدوا أنّ هذا التحول يعكس “سيادة فعلية” في مجال الأمن القومي.
ومن جهة أخرى، يمثل هذا الانسحاب تحولًا في التوازنات الجيوسياسية بغرب إفريقيا. فقد أظهرتْ البلاد المجاورة التي شهدتْ حضوراً فرنسيّاً سابقاً ميلاً نحو شراكات جديدة، لاسيما مع روسيا وتركيا.
وبهذا المعنى، يطرح قرار إغلاق القاعدة العسكرية الفرنسية في السنغال تساؤلاتٍ حول قدرة باريس على الحفاظ على نفوذها التقليدي، وإتاحة فرصة لمنافسين جدد لتعزيز تواجدهم في المنطقة.
من الزاوية الاقتصادية، لا يمكن فصل إغلاق القاعدة العسكرية الفرنسية في السنغال عن الضغوط المتزايدة على ميزانية الدفاع الفرنسية، في وقت تشهد فيه باريس تقشفًا علنيًا في إدارة الإنفاق العام.
أمّا من الناحية الدبلوماسية، فإنّ التوجه السنغالي يضع باريس أمام تحدٍّ في إعادة صياغة نموذج الشراكة مع رعاياها السابقين. وستضطر فرنسا لتبني استراتيجية تقوم على “الشراكات التقنية والاستخباراتية“، بدل القواعد العسكرية، كما حصل في دول مثل مالي وتشاد.
ومن الزاوية الاقتصادية، لا يمكن فصل إغلاق القاعدة العسكرية الفرنسية في السنغال عن الضغوط المتزايدة على ميزانية الدفاع الفرنسية، في وقت تشهد فيه باريس تقشفًا علنيًا في إدارة الإنفاق العام. فقد أعلن رئيس الوزراء الفرنسي غابرييل أتال، يوم 17 يوليو 2025، اقتراحًا مثيرًا للجدل يقضي بحذف يومي عطلة رسميين في فرنسا ضمن خطة لترشيد ميزانية عام 2026، بهدف “دعم العمل وتحسين الأداء الاقتصادي العام” وفق تعبيره.[1]
إذْ يضع هذا التصريح قرار الانسحاب العسكري في سياق أوسع من إعادة هيكلة الأولويات الفرنسية؛ حيث تُعدّ القواعد العسكرية الخارجية، وخاصة في إفريقيا، مكلفة من حيث التشغيل والصيانة والتأمين اللوجستي. ومع تزايد الانتقادات الداخلية بشأن جدوى هذه النفقات في ظل الأزمة الاقتصادية الأوروبية، بات من الواضح أن انسحاب فرنسا من القاعدة العسكرية في السنغال لا يُفسَّر فقط على أنه تراجع جيوسياسي؛ بل أيضًا كخيار اقتصادي تقشفي مدروس.
فالحكومة الفرنسية تبدو مضطرة إلى تقليص التزاماتها الخارجية لصالح تغطية العجز الداخلي، ما يسرّع من تفكيك نموذج “فرانس-أفريك” الذي كان يُموَّل لعقود من المال العام الفرنسي.
في نهاية المطاف، يمكننا القول إن قرار إغلاق القاعدة العسكرية الفرنسية في السنغال يمثل نهاية فصل طويل من الحضور العسكري المباشر الذي طبع العلاقات بين باريس وداكار منذ الاستقلال، ويفتح الباب أمام نمط جديد من الشراكة يقوم على الاحترام المتبادل وتوازن المصالح.
لكنه في الوقت ذاته، يعكس تحوّلًا أعمق في أولويات الطرفين، فمن جهة السنغال، التي تسعى إلى ترسيخ سيادتها وبناء قدراتها الذاتية، ومن جهة فرنسا، التي تجد نفسها مضطرة لإعادة تعريف دورها في إفريقيا في ظل ضغوط اقتصادية متزايدة وتراجع استراتيجيتها التقليدية.
وبهذا، فإنّ الحدث لا يُقرأ فقط كبعد أمني؛ بل كجزء من مشهد دولي جديد يعاد فيه رسم خرائط النفوذ والتكلفة والاستحقاق.
الخلاصة والتوصيات
في لحظة بدتْ عابرة في نشرات الأخبار، أغلقت فرنسا آخر قاعدة عسكرية لها في السنغال. لكنّ ما جرى لم يكن مجرد انسحاب تكتيكي أو إعادة تموضع تقني؛ بل نهاية فعلية لحقبة امتدت لأكثر من ستة عقود، كانت فيها القواعد الفرنسية بمثابة جزر سيادية أجنبية على التراب الإفريقي.
فمن دكار إلى باريس، تغيّرت المعادلة، لم تعد القواعد دليلاً على النفوذ؛ ولكن عبئاً سياسيًاً واقتصاديّاً وأخلاقيّاً يصعب تبريره أمام شعوب تتطلع إلى شراكات عادلة لا وصاية فيها.
فالسنغال لم تُدِر ظهرها للتعاون فحسب؛ بل أعادت تعريفه. فأغلقت الباب أمام الهيمنة التاريخية، وفتحت نوافذ جديدة لشراكة تقوم على المصالح المتوازنة، والقرار الوطني المستقل.
وفي المقابل، وجدتْ فرنسا نفسها مضطرة لإعادة النظر في سياساتها الإفريقية تحت ضغط الداخل المتقشف، والواقع الخارجي المتحول؛ حيث النفوذ لا يُقاس بعدد الجنود؛ بل بمرونة الدبلوماسية وحكمة التموضع.
هكذا، يصبح قرار إغلاق القاعدة العسكرية الفرنسية في السنغال أكثر من مجرد حدث سيادي. إنه إعلان ناعم؛ لكنه صريح، بأنّ إفريقيا تتغيّر. وأنّ زمن “فرانس-أفريك” بكل إرثه وثقله، بدأ يتراجع بهدوء… ومن السنغال تحديداً.
وحتى لا تظل هذه اللحظة رمزية فقط، تقتضي الحكمة أنْ تتحول إلى فرصة استراتيجية لبناء منظومة دفاعية وطنية مستقلة، مدعومة بشبكات إقليمية فعالة. فعلى السنغال أنْ تستثمر هذا التحول في تحديث بنيتها العسكرية، وتعزيز قدراتها الاستخباراتية، وتوسيع علاقاتها الدفاعية بعيدًا عن التمركز في محور واحد.
أما الدول الفرنكوفونية الأخرى، فعليها أنْ تستلهم هذا المسار، ليس على سبيل التقليد؛ ولكنْ لإعادة صياغة علاقتها بفرنسا بمنطق الندية والمصلحة الوطنية، لا بعقلية التبعية. فالمشهد يتغير، والتاريخ لا ينتظر من يتردد في أمره.
_____________
[1] France: Prime minister proposes cutting two public holidays to save money in 2026 budget: https://www.africanews.com/2025/07/17/france-prime-minister-proposes-cutting-two-public-holidays-to-save-money-in-2026-budget/




