الأزمات السياسية والإنسانيةالسيادة والنزاعات الحدودية

مدغشقر ما بعد الانقلاب: مأزق الشرعية وتحديات الإصلاح

مدغشقر ما بعد الانقلاب: مأزق الشرعية وتحديات الإصلاح

أنهى وصول الجنرال ميشيل راندريانيرينا Michaël Randrianirina لرئاسة البلاد في 17 أكتوبر الجاري حقبة الرئيس المعزول أندري راجولينا بشكل حاسم؛ كما عبر سعي الرئيس الجديد لطمأنة المجتمع الدولي بتوجه بلاده مستقبلًا توجهًا معتدلًا عن طبيعة المرحلة المقبلة في مدغشقر والتي سيحكمها غالبًا توجهان رئيسان وهما: تعزيز شرعية النظام الحاكم دوليًا وداخليًا؛ ومواجهة مقبولة لتحديات الإصلاحات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المطلوبة شعبيًا بقيادة حركة جيل زد. وكشف هذا الهبوط الناعم للجنرال راندريانيرينا في قيادة البلاد وترقب قطاعات الشباب الساخل في مدغشقر لبوصلة توجهات الأول، الذي لم تركز عليه الأضواء تمامًا إلا بعد قرار تعيينه رئيسا من قبل المحكمة الدستورية العليا خلال انعقادها في العاصمة انتاناناريفو.

النظام بين الشرعيتين الثورية والدستورية

مثل الحراك الشعبي الذي قاده شباب الجيل زد في مدغشقر مرحلة متقدمة من موجات ثورية متعاقبة قادتها حركات شبابية طلابية وعمالية في البلاد منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي للمطالبة بإصلاحات اقتصادية وسياسية.

ويمثل انتصار حركة احتجاجات الجيل زد انتصارًا متأخرًا، في حال عدم انقلاب السلطة الحالية على المطالب الرئيسة للحركة والاكتفاء وفق سيناريو متوقع بدرجة معقولة بتبريد الأزمة الحالية في العامين المقبلين، بعد نضالات امتدت لعقود في أوساط الشباب والفلاحين من أجل نيل حقوقهم الاقتصادية والسياسية كاملة (لاسيما أن انتفاضات الفلاحون في مطلع السبعينيات كلفت خسائر في الأرواح تقدر بالآلاف، وتلتها أعمال شغب واحتجاجات في المراكز الحضرية مثل العاصمة في العام 1972 لعب خلالها الشباب دورًا رئيسًا). ويتضح من هذا وجود مسارين متعارضين؛ الأول تقوده الدولة (حتى سقوط نظام راجولينا الذي يحمل الجنسية الفرنسية في أكتوبر الجاري على أقل تقدير ريثما تتضح سياسات النظام الحالي تجاه فرنسا) ويهدف إلى طي صفحة مآسي الاستعمار الفرنسي في البلاد وتعميق العلاقات مع فرنسا باعتبارها القوة الدولية الأولى بالرعاية في أنتاناناريفو (مع ملاحظة الحضور الفرنسي العسكري والاقتصادي القوي في منطقة المحيط الهندي الغربية التي تطل عليها شرق أفريقيا وجنوبها من موزمبيق على وجه الخصوص). أما المسار الثاني فتقوده فئات العمال والطلاب وقياداتها التاريخية منذ سبعينيات القرن الماضي، ووجد تعبيرًا عنه في احتجاجات الجيل زد الأخيرة، والذي يدعو إلى علاقات متوازنة مع فرنسا لا تعوق سياسات أي نظام وطني تهدف لتحقيق إصلاحات مؤسساتية وبنيوية في البلاد. وهكذا فإن النظام يحظى بالفعل، حتى إشعار آخر، بالشرعية الثورية التي تتقبل تصرفاته وخطواته حتى اللحظة.

ويضاف إلى ذلك تمكن النظام الجديد بقيادة العقيد ميشيل راندريانيرينا من تجاوز عقبة سياسية تلو أخرى بدينامية واضحة في أيامه الأولى؛ فقد بادر الرئيس الانتقالي (20 أكتوبر) بتعيين هيرينتسلاما راجاوناريفيلو Herintsalama Rajaonarivelo، وهو رجل أعمال بارز، بناء على ما وصفه العقيد بتوصية من الجمعية الوطنية، وبرر العقيد اختياره لرئيس الوزراء “لمهاراته، وخبرته، وعلاقاته مع المنظمات الدولية”.  ويؤشر ذلك إلى سرعة اكتساب الرئيس الانتقالي ونظامه شرعية سياسية متماسكة تقوم بالأساس على تمرير خطواته عبر غطاء الجمعية الوطنية، وهو مسار ناجح وله شواهد كثيرة في تجارب التغيرات غير الدستورية في أفريقيا منذ ثمانينيات القرن الماضي (واغلبها دول فرانكفونية للملاحظة هنا).

النظام الجديد وملفات الإصلاح: تحديات بالجملة

مع تمكن نظام العقيد راندريانيرينا من الجمع بين الشرعيتين الثورية والسياسية فإنه لا يزال يواجه تحديات حقيقية في العامين المقبلين، وتتمثل هذه التحديات فيما يلي:

الإصلاحات الاقتصادية: ويبدو أن النظام الانتقالي الجديد سيولي اهتمامًا ملحوظًا بهذه الإصلاحات؛ إذ جاء رئيس الوزراء الحالي حاملًا معه سيرة ذاتية تتضمن شغل العديد من المناصب الرفيعة في القطاع الخاص بما فيها الرئيس السابق لمجلس إدارة BNI Madagascar Bank، كما انه حاصل على درجة الماجستير في الاقتصاد الصناعي واقتصاد الأعمال، وعمل مستشارًا دوليًا للعديد من المنظمات الدولية مثل البنك الدولي والاتحاد الأوروبي والسوق المشتركة لشرق وجنوب أفريقيا، وجماعة التنمية الجنوب أفريقية، ومفوضية المحيط الهندي. كما قاد جمعية أصحاب الأعمال المالاجاشية وساهم في تطوير العديد من المشروعات التي يدعمها شركاء مدغشقر الدوليون لصالح حكومة مدغشقر. ويتوقع أن يستكمل رئيس الوزراء جهود الحكومات السابقة على مدى العقدين الماضيين، والدفع نحو تحول الهيكل الاقتصادي للبلاد هيكلياً نحو التصنيع، مع زيادة الاستثمار في قطاع التعدين. وويلاحظ أنه نظراً لعدم اعتماد التعدين على كثافة العمالة (في مقابل عمل أغلب قوة العمل المالاجاشية في قطاع الزراعة)، فقد كان التحول بطيئاً للغاية بحيث لم يُسهم في الحد من الفقر بشكل كبير؛ وهو ما يعزز كون التصنيع أحد مجالات الإصلاحات الاقتصادية المرتقبة. ورغم ارتفاع حصة القطاع الصناعي من الناتج المحلي الإجمالي من 16% عام 2000 إلى 27% عام 2021، إلا أن متوسط ​​حصته من العمالة ظل عند 8.5%. وانخفضت حصة الزراعة من الناتج المحلي الإجمالي من 29% عام 2000 إلى 25% عام 2021، وتراجعت حصة الخدمات من 55% إلى 48%. إلا أن حصة الخدمات من العمالة ارتفعت من 14.7% عام 2000 إلى 27.4% عام 2021، وإن كان معظمها في أنشطة غير رسمية، مما أثر سلباً على العمالة في الزراعة، التي انخفضت من 77% إلى 64.1%. ومن ثم فإنه سيكون على الحكومة الجديدة تسريع التحول الهيكلي من خلال تنفيذ اتفاقية البرمجة الصناعية، التي تهدف إلى تسريع وتنويع التصنيع بحلول عام 2040. وبالمثل، ينبغي للبلاد تعزيز الإيرادات المحلية، وتطوير السوق المالية المحلية، وتحسين بيئة الأعمال، وبناء بنية تحتية مرنة. كما ينبغي لها الاستفادة من إصلاح النظام المالي العالمي، مما يتيح الوصول إلى المزيد من الموارد الميسرة، والتمويل المشترك، والتمويل المختلط (سندات المناخ، والسندات الخضراء، والسندات الزرقاء)، وتعبئة حقوق السحب الخاصة لصندوق النقد الدولي، وتسهيل الاستثمار والتجارة الخاصة، ويعزز عمل رئيس الوزراء في مؤسسات اقتصادية دولية عمله على تنفيذ هذه البنود بروح النيوليبرالية.

إصلاح النظام السياسي: أقدم الرئيس الجديد عند قسمه اليمين الدستورية رئيسًا للبلاد (17 أكتوبر) بتوجيه الشكر للمحتجين الشباب على ما قدموه من تضحيات لبلدهم ودفاعهم عنها، وتم التوقيع في مقر المحكمة الدستورية في العاصمة أنتاناناريفو وسط تجمعات حاشدة في الشوارع المحيطة بمقر المحكمة، واعتبر أن البلاد تمر بمرحلة تحول، يعبر فيها الشعب بأكمله عن رغبته في التغيير. ويتوقع أن يدخل الرئيس الجديد إصلاحات أولية على النظام السياسي بحيث يشمل تعزيز الشفافية، وحرية عمل الأحزاب السياسية المعارضة بمختلف تحيزاتها السياسية والطبقية، وتمكين الشباب من أدوار سياسية أكبر.

النظام الجديد وتموضع مدغشقر الإقليمي والدولي

عبر الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك خلال زيارته لمدغشقر في 21 يوليو 2005 عن أسف بلاده الرسمي “لجرائم الاستعمار الفرنسي في مدغشقر في العام 1947؛ ورد الرئيس المالاجشي وقتها مارك رافالومانانا ردًا فاجيء المواطنين والمراقبين الخارجيين على حد السواء؛ إذ شرح أنه هو نفسه قد ولد بعد هذه الأحداث بعامين (1979)، ومن ثم فإنها مسائل لا تستحق الاهتمام الكبير، ورأى أن مستقبل علاقات الجزيرة مع فرنسا هو الأمر الأكثر أهمية من الماضي (Randrianja, Solofo, Madagascar: A Short History, Chicago, 2009)، وبمرور الوقت اكتسبت رؤية رافالومانانا مقبولية وسط المجموعات العمرية الأكبر سنًا في البلاد، لتنهي تلك المقاربة شكليًا نضالات السبعينيات وما بعدها حتى مطلع القرن الحالي.

لكن التقارير التي جاءت قبل ساعات من إعلان سقوط راجولينا بتوجه طائرة فرنسية عسكرية لمقره ونقله إلى باريس أو جهة غير معلومة وقتها تؤشر إلى حجم تغلغل النفوذ الفرنسي في بنية النظام السياسي المالاجاشي، وصعوبة حدوث تغيرات راديكالية في حجم هذا النفوذ، حتى في ضوء قراءة سلوك الرئيس الانتقالي الحالي وتعيينه (20 أكتوبر) رئيسًا للوزراء من بين رجال الأعمال المالاجاشيين.

كما جاء الانقلاب الأخير، عقب حركة الاحتجاجات المعروفة والتي تابعتها عن كثب وبقلق واضح الأمم المتحدة في مؤشر لا يخفى على المتابع،  ليثير تساؤلات حول التدخل المحتمل للاتحاد الأفريقي في مستقبل العملية السياسية في مدغشقر. وقد توصلت أنطونيا ويت Antonia Witt في مؤلفها الهام في هذا السياق حول تدخل الاتحاد الأفريقي في مدغشقر بعد الانقلابات (Undiong Coups: The African Union and Post-coup Intervention in Madagascar, 2009) إلى سيناريو التدخل التقليدي للاتحاد في مثل هذه الحالات؛ مشيرة إلى أن نموذج إعلان لومي بخصوص “العودة العاجلة للنظام الدستوري” (حسب مواثيق منظمة الوحدة الأفريقية في العام 2008) لم يتحقق بسهولة في حالة مدغشقر. بل على النقيض من ذلك فإن تدخل الاتحاد لمدة خمسة أعوام بعد الانقلال في مدغشقر كانت دالة على تعقد الوضع في البلاد والتنافس الحاد بين الفاعلين بها والتفاعلات التي شكلت ما كان يفترض به استعادة النظام الدستوري في البلاد. وضربت مثالًا على ذلك بأنه عند تسليم الجيش المالاجاشي السلطة للرئيس المعزول راهنًا أندري راجولينا في مارس 2009 أدان مجلس السلم والأمن بالاتحاد الأفريقي، إلى جانب اللاعبين الدوليين والإقليميين الآخرين، على الفور هذه الخطوة باعتبارها “تغييرًا غير دستوري للحكم وطالب بعودة سريعة للنظام الدستوري. ومن أجل تلبية هذا المطلب تقرر تنظيم مفاوضات بوساطة دولية بين من أُطلق عليهم “الحركات الأربعة” Four Mouvances التي مثلها كل من راجولينا والرؤساء السابقون: مارك رافالومانانا Marc Ravalomanana (تولى 2002-2009)، وألبرت زافي Albert Zafy ، وديديه راتسيراكا Didier Ratsiraka، ورأت بعد تحليل عميق أن هؤلاء الأعمدة الأربعة لإدارة المرحلة السياسية بعد الانقلاب في مدغشقر كانوا بالأساس نتاجًا للتدخل، وأنهم بنوا سياساتهم بالأساس على مصالح التدخل الإقليمي وليس وفق سيناريو المصلحة الوطنية في مدغشقر (ص 99-100).

ووفق هذه القراءة، وما نشهده على الأرض من مقبولية أمر واقع بالتغيرات “غير الدستورية” في مدغشقر من قبل الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة (التي دل سلوكها في الأسابيع الأخيرة على ترقب سقوط راجولينا) وحتى فرنسا، فإن الشهور المقبلة لن تشهد –على الأرجح- أية تغيرات راديكالية في سياسات انتاناناريفو الخارجية، لاسيما مع فرنسا.

في الختام، مثلت تجربة مدغشقر الاحتجاجية ونقل السلطة لرئيس انتقالي لمدة عامين بتفويض من المحكمة الدستورية في البلاد، انتقالًا سلسًا نوعًا ما، بينما يراه البعض، بحيثيات لا يستهان بجديتها، انقلابًا ناعمًا قاده الجيش المالاجاشي لتفادي عمومية الفوضى في البلاد التي تعاني بالأساس من مشكلات اقتصادية مزمنة منذ الاستقلالن وتفاقمت مع تردي أحوال السكان المعيشية في سبعينيات القرن الماضي.

كاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى