الأمن القومي والدفاع العسكريتقدير موقف

التدخل اليوغندي في جنوب السودان .. بين الماضي والحاضر

كدولتين متجاورتين، تجمع بين يوغندا وجنوب السودان قواسم مشتركة من الجغرافيا والديموغرافيا والتحديات المشتركة، وترتبط الدولتان بروابط تاريخية وروابط ثقافية بجانب المصالح السياسية والاقتصادية المتباينة، كما يشهد البلدان نزاعا حدوديا منذ سنوات طويلة، سبقت انفصال جنوب السودان عن الدولة الأم، كل هذه العوامل قد تؤثر بشكل كبير على استقرار البلدين والمنطقة، وتنذر بتصعيد أمني قد يؤثر في الاستقرار الهش.

يطرح التدخل اليوغندي المستمر في الشؤون الداخلية لجنوب السودان جملة تساؤلات حول سيادة الدولة واستقلالية قراراتها، مما يستدعي ضرورة تشخيص هذا الواقع الماثل، تحليلا لتداعياته، واقتراح ما يلزم من حلول ومقاربات، تسهم في استعادة زمام المبادرة لتحقيق مستقبل أكثر استقرارًا في جنوب السودان.

في تاريخ علاقات يوغندا وجنوب السودان ..

كانت العلاقات بين يوغندا وما أصبح يُعرف لاحقًا بدولة جنوب السودان عابرة للحدود في البداية، ومنذ الحقبة الاستعمارية وتأسيس الحكومات المركزية، تشاركت المنطقتان حدودًا طويلة، تُعبِّر المناطق الأصلية لعدة مجموعات عرقية، وقد تطلَّبت إدارة شؤون هؤلاء السكان في المناطق الحدودية التنسيق بين الحكومات الاستعمارية منذ أربعينيات القرن الماضي؛ فالتحق سكان جنوب السودان بالمدارس في يوغندا، وفرَّ الكثيرون عبر الحدود بحثًا عن ملاذ آمن بعد تمرد الكتيبة 105 في بور عام ١٩٥٥م في الإقليم الاستوائي.

أضافت أزمات جنوب السودان والتمردات المتعددة (١٩٦٣- ١٩٧٢م و١٩٨٣- ٢٠٠٥م) حربًا بالوكالة إلى العلاقات الثنائية، كان جنوب السودان لا يزال جزءًا من السودان، وخلال الحرب الأولى، كان السودان متحالفًا مع مصر. وبعد حرب ١٩٦٧م، سلّحت إسرائيل ودرّبت المتمردين في جنوب السودان، مستخدمةً إثيوبيا ويوغندا كقنوات اتصال، ووجد اللاجئون الأوغنديون منذ السبعينيات ملاذًا آمنًا في جنوب السودان؛ حيث كانت عناصر من الجيش الأوغندي تعمل أيضًا.

تصاعد العداء بين كمبالا والخرطوم خلال التسعينيات، واشتدت الحرب بالوكالة، وكان للرئيس اليوغندي يوري موسيفيني وحركته للمقاومة الوطنية علاقات وثيقة مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، وجيشها بقيادة جون قرنق، حيث ردت الخرطوم بتسليح وتدريب الجماعات المتمردة في شمال يوغندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، بما في ذلك جيش الرب للمقاومة (LRA).

بعد توقيع إتفاق السلام الشامل في 2005م تعززت العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية بين السودان ويوغندا، وكان جنوب السودان يتلقَّى سنويًّا مئات الملايين من الدولارات الأمريكية من عائدات النفط، في حين لم يكن لديه اقتصاد رسمي أو قطاع تجاري لاستيعابها؛ تدفق التجار ورواد الأعمال من يوغندا وغيرها، وباتت ليوغندا مصالح طويلة الأمد ومتنوعة في جنوب السودان.

في الفترة من 2005م إلى 2013م، ارتبط الاقتصاد بالأمن في علاقات جنوب السودان بيوغندا، وتم تعزيز الاستقرار والتجارة والتنمية الاقتصادية؛ وسهَّلت البنية التحتية الموسعة التجارة والامتداد العسكري، ولأن المخاوف الأمنية أهم من المصالح الاقتصادية، ولتجنُّب نشوب حرب بالوكالة أو تهديد عناصر مسلحة لاستقرار أوغندا في جنوب السودان، سعت كمبالا إلى “شريك صغير” وودود في جوبا، لكن هذا الوضع تغيَّر مع اندلاع الحرب الأهلية من جديد في جنوب السودان.

التدخل اليوغندي العسكري في جنوب السودان

كانت بدايات التدخل العسكري اليوغندي في دولة جنوب السودان عقب اندلاع الحرب الأهلية أواخر عام 2013م بين قوات الرئيس سلفا كير والمتمردين بقيادة نائبه السابق رياك مشار، ومع اقتراب المتمردين من العاصمة جوبا، سارعت يوغندا لإرسال قوات مسلحة يوغندية إلى جوبا بدعوى حماية المطار وتأمين الرعايا اليوغنديين، لكنها سرعان ما انخرطت هذه القوات في القتال إلى جانب الحكومة، ولعبت دورًا أساسيًّا في صدّ الهجوم عن جوبا مطلع عام 2014م، وقد منَح هذا التدخل حكومة سلفا كير فرصة لترسيخ سلطتها في مواجهة تمرُّد كاد أن يطيح بها.

إلا أن هذا التدخل الأوغندي أثار جدلًا واسعًا داخل المنطقة وخارجها؛ حيث اتُّهمت كمبالا بأنها أطالت أمد الصراع، وأخلّت بميزان القوى في جنوب السودان، مما ساهم في تفاقم حالة اللادولة وعدم الاستقرار، ورغم دفاع الرئيس يوري موسيفيني عن قراره، واعتباره تدخلًا لحماية الأمن الإقليمي، إلا أن الضغوط الدولية والإقليمية أجبرت يوغندا على سحب قواتها عام 2015م بعد توقيع اتفاقات السلام التي رعتها منظمة إيقاد.

هناك من يرى أن التدخل الأوغندي يقع ضمن المصالح الاستراتيجية لهذا البلد الذي ظل لاعبًا رئيسيًا في جنوب السودان، حيث دعمت الحركة الشعبية لتحرير السودان خلال الحرب الأهلية السودانية الثانية (١٩٨٣-٢٠٠٥)، لكن هذا الدعم تحوّل إلى تدخل عسكري مباشر، كما حدث في عام ٢٠١٣ عندما أرسلت يوغندا قواتها لدعم حكومة سلفا كير ضد المتمردين.

في مارس الماضي ٢٠٢٥، أعلنت يوغندا عن نشر قوات خاصة في جوبا، مبررة ذلك بحماية الاستقرار الإقليمي، إلا أن تصريحات قائد الجيش اليوغندي موهوزي كاينيروجابا أثارت جدلًا واسعًا عندما قال إن أي تحرك ضد سلفا كير يعتبر إعلان حرب على يوغندا، مما يثير تساؤلات حول حدود النفوذ اليوغندي ومدى احترامه لسيادة جنوب السودان.

على الرغم من نفي الحكومة الجنوبية وجود قوات يوغندية، فإن هذا التدخل يكشف عن ضعف مؤسسات الدولة وعدم قدرتها على حماية سيادتها دون دعم خارجي، ولذا يمكن القول أن جنوب السودان يقف اليوم أمام واحد من أصعب الاختبارات في تاريخه، ويحتاج لتحرك وطني جاد نحو إصلاح المؤسسات، تحقيق المصالحة، وإنهاء التبعية الخارجية، حيث يتصاعد القلق من نفوذ يوغندا في جنوب السودان، ويعارض مؤيدو ريك مشار، نشر القوات اليوغندية في البلاد، ويعتبرون أن كمبالا تتدخل في شؤون بلادهم، وقد عبّر عدد من المواطنين عن غضبهم وعقب الاشتباك الأخير، منتقدين صمت الجيش حيال ما سموه بانتهاك القوات الأوغندية لأراضي بلادهم.

التدخل اليوغندي في جنوب السودان، رغم تبريره بحماية الأمن الإقليمي ودعم الحكومة الشرعية، أسهم بشكل كبير في فرض حالة “اللادولة”؛ حيث عزز من استمرارية النزاع بدل حله، وأدى إلى تغييب الحلول السياسية المستقلة. فبدلًا من أن تؤدي دور الوسيط الحيادي، انحازت أوغندا لطرفٍ معينٍ، مما ساهم في إضعاف مؤسسات الدولة وشرعية السلطة أمام الأطراف الأخرى. كما ساعد التدخل العسكري المباشر في ترسيخ الانقسام، وتغذية الصراع بالمال والسلاح، مما أجهَض أيّ مساعٍ لبناء دولة قوية ذات سيادة كاملة. لذا فإن التجربة الأوغندية في جنوب السودان تطرح نموذجًا سلبيًّا للتدخلات الإقليمية، وتؤكد الحاجة إلى مراجعة شاملة لأدوار الفاعلين الخارجيين في النزاعات الإفريقية؛ بحيث تكون قائمة على دعم الدولة لا تهميشها.

النزاع الحدودي والتدخل اليوغندي في جنوب السودان

ليست هذه المرة الأولى التي تقع فيها نزاعات حدودية بين جنوب السودان ويوغندا، إذ غالبا ما تقع اشتباكات أو مناوشات في المناطق المشتركة، لكنّ أن يعقب النزاع تدخل عسكري واستخدام المدفعية الثقيلة وتبادل القصف بين الجيشين كان أمرا نادر الحدوث، وتعود جذور المشكلة الحدودية إلى فترة الحكم الاستعماري، حين رُسمت الحدود بين السودان الذي كان جنوب السودان جزءا منه ويوغندا، ولم يتم التوصل إلى اتفاق نهائي بشأنها رغم تشكيل لجنة مشتركة لذلك الغرض.

بعد انفصال جنوب السودان، اجتمع الرئيس سلفاكير ميارديت ونظيره الأوغندي يوري موسيفيني، وتعهدا بحل النزاع الحدودي العالق منذ فترة الاستعمار، لكن ذلك لم يتحقق، وتجدد النزاع بحدوث اشتباكات قُتل فيها جنود من الطرفين عام 2024، وطالب البرلمان اليوغندي بتسريع عملية الترسيم في العام نفسه 2024، وحذر من استمرار غياب الحدود الواضحة مشيرا إلى أن ذلك يسهم في انتشار العصابات المسلحة ويفاقم من مشاكل انعدام الأمن. وعقب الاشتباكات الأخيرة، أعلنت الدولتان تشكيل لجنة مشتركة جديدة للتحقيق في الأحداث وحل القضايا العالقة، وفقا لبيان صادر من المتحدث باسم جيش جنوب السودان.

سيناريوهات

هناك مجموعة من السيناريوهات المطروحة، يمكن أن يسفر عنها استمرار أزمة التدخل اليوغندي عسكريا في جنوب السودان، يمكن تلخيصها في الآتي:

 ١. سيناريو تفعيل الإرادة السياسية لقادة جنوب السودان ووضع خلافاتهم جانبًا والعمل بجدية لتنفيذ اتفاقية السلام بشكل كامل، خصوصًا الترتيبات الأمنية وتوحيد القوات المسلحة، مما يعني بسط سيادة الدولة على كافة أراضيها، وبالتالي تضييق الخناق على التدخل اليوغندي.

 ٢. سيناريو صدور قرار سياسي واضح في جنوب السودان بإنهاء التدخلات الخارجية، ووضع حد للتدخلات الإقليمية، خصوصًا اليوغندية، من خلال تعزيز سيادة الدولة وإعادة بناء المؤسسات الأمنية، وهو ما سيجد ترحيبا شعبيا، قد يرفع شعبية الحكومة القائمة، لكنه قد يعرضها لمخاطر تقوية المعارضة وتكتلها ضدها.

 ٣. سيناريو استمرار الوضع الراهن، وحالة السيولة السياسية التي تسمح ليوغندا بتعزيز وجودها في تراب جنوب السودان، وهو ما يعني استمرار التدخل اليوغندي دون موقف سياسي يذكر.

مراجع

  • شولا لوال، 4 أسئلة تشرح سبب الأزمة الحدودية بين أوغندا وجنوب السودان، الجزيرة نت، 2/8/2025 ، الرابط: https://shorturl.at/mvW1s
  • حسناء بهاء، تدخُّل أوغندا في جنوب السودان وفرض حالة اللادولة، قراءات إفريقية، 1 سبتمبر2025، الرابط:https://shorturl.at/2gTtG
  • أحمد عسكر، مستقبل حركة جيش الرب الأوغندي، التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب، 14/02/2021، الرابط: https://www.imctc.org/ar/eLibrary/Articles/Pages/articles14022021.aspx
  • فولينو جوض، التدخل الأوغندي في جنوب السودان: بين حماية الحلفاء وتجاوز السيادة، عمق الحدث، 12 مارس 2025، الرابط: https://shorturl.at/EGLAo

كاتب

  • محمد خليفة صديق

    محمد خليفة صديق، أستاذ العلوم السياسية وباحث بمركز الدراسات الإفريقية

محمد خليفة صديق

محمد خليفة صديق، أستاذ العلوم السياسية وباحث بمركز الدراسات الإفريقية

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى