اغلاق تشاد لسفارتها في إسرائيل.. الأسباب والتداعيات
أعلنت تشاد مطلع سبتمبر الماضي إغلاق مجموعة من سفارتها بالخارج منها سفارتها في تل أبيب، بعد أقل من عامين ونصف على افتتاحها في فبراير 2023، مع نقل الاختصاص الدبلوماسي المتعلق بإسرائيل إلى سفارتها في أبوظبي، وتم إغلاق سفارة تشادية في كل من الغابون، وساحل العاج، بجانب إغلاق القنصلية العامة في إسطنبول، بينما افتتحت قنصلية عامة في كيغالي (رواندا)، وترفيع القنصلية العامة في كوتونو (بنين) إلى سفارة.
نرجو من خلال هذا المقال أن نستقصي أسباب قرار تشاد اغلاق سفارتها في إسرائيل، بجانب قراءة لتاريخ وتقلبات علاقات البلدين، وقراءة للتداعيات المحتملة لهذا القرار وتوقيته.
في تاريخ العلاقة
مع بداية الاستقلال، بادرت عدد من الدول إلي فتح سفاراتها في تشاد، من بينها إسرائيل التي فتحت سفارتها في انجمينا عام 1962، في عهد الرئيس انقرتا طمبلباي، وبعد ذلك في 1965 زار الرئيس طمبلباي إسرائيل، ساعيا في الحصول على دعم عسكري من تل أبيب لمحاربة المتمردين ضده، فيما سعت هذه الأخيرة حينها إلى إنشاء قاعدة عسكرية لها في شمال البلاد.
وفي 28 نوفمبر 1972 قررت تشاد قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، وكان التضامن مع الشعب الفلسطيني من بين ما جاء في تبريرها لهذا القرار، لتتوقف بذلك العلاقات بين البلدين، حتى عهد الرئيس حسين حبري (1982-1990) الذي طلب من إسرائيل دعمه ضد ليبيا في ما بات يعرف تاريخيا بالحروب الأربعة (1978-1987) بين تشاد وليبيا، لكن العلاقات الدبلوماسية لم تُستأنف رسميا حتى عهد الرئيس إدريس ديبي إتنو (1990-2021)، الذي قام بزيارة رسمية إلى إسرائيل في 25 نوفمبر 2018، ناقش خلالها قضايا أمنية واقتصادية وتكنولوجية، وقام ديبي الأب بإحياء هذه العلاقات حماية لمصالحه، وسعيا لتعزيز الأمن وتثبيت ركائز نظامه، بعد شعوره بأن فرنسا تبحث عن بديل له. واعتبر الإسرائيليون زيارة ديبي الأب بمثابة “اختراق دبلوماسي آخر”، رغم عدم رضى أغلبية الشعب التشادي على استئناف تلك العلاقات.
وفي 20 يناير 2019 رد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بعد عام فقط، زيارة ديبي بزيارة رسمية إلى تشاد، كانت أول زيارة لرئيس وزراء إسرائيلي لتشاد، أكد فيها أن “تشاد دولة إسلامية عملاقة تتاخم ليبيا والسودان”، وأضاف بأن “هذا جزء من الثورة التي نحدثها في العالمين العربي والإسلامي، ووعد بأن تكون هناك دول أخرى على طريق التطبيع”.
بعد رحيل ديبي الأب في عام 2021، تولى ديبي الابن السلطة، وسار على خطى والده، خصوصا أن خصومته مع باريس كان واضحة، لذا لم تتوقف اتصالاته مع إسرائيل، وتواصلت الزيارات السرية بين الحكومتين، والتي خرجت إلى العلن بزيارته لإسرائيل في 2 فبراير 2023، مؤكدا استمرار سعيه لإكمال خطة والده، حيث وقع عددا من الاتفاقيات الثنائية مع الحكومة الإسرائيلية، وتوجت الزيارة بافتتاح السفارة التشادية في تل أبيب لأول مرة في تاريخ البلاد.
أبعاد سياسية في قرار الاغلاق
جاء قرار وزارة الخارجية التشادية بإغلاق السفارات بتبريرات متعددة منها ما وصف بقيود في الميزانية وإعادة تنظيم انتشار البعثات، وقالت الوزارة أن العلاقات مع إسرائيل لم تُقطع؛ بل ستدار من الإمارات لتقليل النفقات، وقال وزير الدولة للخارجية عبدالله صابر أن إغلاق السفارة في إسرائيل لن يؤثر على العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، لكن المتابع يرى أن الخطوة لم تأت معزولة عن سياق سياسي إقليمي، إذْ سبقتها استدعاءات متكررة للممثل الدبلوماسي التشادي في إسرائيل بسبب الموقف من حرب غزة، مما أضفى على الإغلاق بعداً سياسيّاً غير معلن.
يرى مراقبون أن المبرّر المالي للإغلاق لا ينفصل عن سياق سياسي ملتهب منذ الحرب على غزة في أكتوبر 2023؛ فقد سبقت القرارَ خطواتٌ احتجاجية، بينها استدعاء القائم بالأعمال التشادي في نوفمبر 2023 للتشاور بشأن الوضع الإنساني، وهو ما عكس حساسيةٍ داخلية وإفريقية أوسع تجاه الحرب، وفي 4 سبتمبر 2025، استدعت تشاد مجددًا القائم بالأعمال لديها للتشاور على خلفية استمرار الأزمة الإنسانية، وكان ذلك قبل إعلان قرار الإغلاق مباشرة، ما يلمّح إلى وجود أبعاد سياسية موازية وراء الخطوة.
يظهر قرار الإغلاق كخيار «خفض حضور» أكثر منه قطيعة، بما يوازن بين ضغط الصورة العامة داخليًا وإقليميًا وبين الحاجة إلى إبقاء قنوات عملية مفتوحة، حيث يوفّر نقل الملف إلى أبوظبي «مخرجًا إداريًا» يتيح تخفيض التكلفة المالية والرمزية معًا، ويترك الباب مواربًا لمراجعة الوتيرة وفق تطوّر الحرب في غزة أو تحسّن الوضع المالي؛ فالتراجع عن بعثة مقيمة في إسرائيل لا يعني- عند الحكومة التشادية على الأقل- إنهاء العلاقة؛ بل ربما إعادة ترتيبٍ لدرجات الحضور الدبلوماسي بما يتناسب مع أولويات اللحظة.
ويعكس توقيت القرار مفارقة ملحوظة في مسار العلاقات التشادية الإسرائيلية؛ فقد أعيدت العلاقات رسميًا عام 2019 بعد انقطاع دام أكثر من أربعة عقود، ثم افتُتحت السفارة في احتفال كبير حضره كل من الرئيس محمد ديبي وناتنياهو، ووُصفت الخطوة آنذاك بأنها بداية صفحة جديدة، غير أن قرار الإغلاق اليوم يعكس الضغوط التي تواجهها أنْجمينا، سواء من ناحية الأعباء الاقتصادية أو من زاوية حساسية الرأي العام تجاه الصراع في الشرق الأوسط. كما يبدو أن أنجمينا تعمل للحفاظ على جسور مع مختلف الأطراف، وتجنّب الوقوع في عزل اقتصادي، وإدارة صورتها الخارجية في ملف حساس مثل غزة، مع إبقاء العلاقة مع إسرائيل قائمة ولكن أقل ظهورًا من حيث البنية والرمزية.
سر اختيار أبو ظبي لإدارة الملف
في المقابل، لا يخلو اختيار سفارة تشاد في أبوظبي دون سواها لإدارة ملف العلاقات التشادية الاسرائيلية من دلالات سياسية، إذْ يشير إلى التأثير القوي للإمارات في شبكة علاقات تشاد الخارجية، سواء عبر الدعم المالي أو عبر أدوارها الإقليمية التي تجعلها مركزًا دبلوماسيًا وسيطًا بين إفريقيا والشرق الأوسط، وقد تكون الإمارات هي صاحبة الاقتراح لحين انجلاء الغبار العالق حاليا في المنطقة.
تُظهر الصيغة التنفيذية للقرار—الإبقاء على الصلات ونقل الاختصاص لأبوظبي—مسعىً لتخفيف الحضور الرمزي في إسرائيل من دون خسارة قنوات الاتصال العملية، وبذلك تجمع أنجمينا بين تقليص التكلفة المالية وتقليص تكلفة صورتها المهتزة في الإقليم بسبب التطبيع، وهو توازن قد يمنحها هامش حركة مستقبلا.
يلاحظ أيضا أن اختيار أبوظبي لإدارة ملف العلاقات مع إسرائيل ينسجم مع صعود ملحوظ في علاقات تشاد بالإمارات خلال الأعوام الأخيرة، شمل تعاونًا ماليًا وتنمويًا ومباحثات قطاعية في الطاقة والتعدين والقطاع المالي، إلى جانب مساعدات إنسانية كبيرة لدعم الأمن الغذائي، حيث تسعى أبوظبي لتكون “ممرّ دبلوماسي” عملي لأنجمينا؛ في ظل تقاطع المصالح الاقتصادية مع شبكة اتصالات إقليمية نشطة تمتد من الخليج إلى القرن الإفريقي ومنطقة الساحل.
وتظهر حرب السودان أيضا في تلافيف هذا القرار لارتباطه ببيئة أمنية حساسة على حدود تشاد الشرقية مع السودان؛ فمنذ اندلاع الحرب في 2023، أثارت تقارير أممية وصحفية اتهامات متكررة بوجود أعداد مهولة من رحلات شحن انطلقت من مطارات في الإمارات وفي أرض الصومال وهبطت في مطارات نيالا وغيرها وأم جرس داخل تشاد، وهي تحمل عتادا ودعمًا لمليشيا الدعم السريع، ووثق خبراء ومؤسسات أوروبية المسارات اللوجستية المشتبه بها لهذه الرحلات، ودور الذهب السوداني المهرّب إلى الإمارات في تمويل اقتصاد الحرب، وهو ما يعني أن انجمينا تعمل لتعظيم الوصول إلى شريك مالي ودبلوماسي مؤثر قد يسهم في الوساطة والدعم اللوجستي؛ لكنه أيضا سيربط تشاد أيضاً بشبكة علاقات سالبة، وهي محل متابعة دولية بسبب الحرب في السودان وتجارة الذهب العابرة للحدود.
خاتمة
قرار تشاد بإغلاق سفارتها في تل أبيب لا يمكن قراءته كخطوة مالية بحتة، ولا كرسالة سياسية صريحة؛ بل يبدو أنه أقرب لمحصلة لتاريخ طويل من علاقات متذبذبة مع إسرائيل، مع مناخ إقليمي متأزم منذ اندلاع حرب غزة، وضغوط اقتصادية تفرض على أنجمينا إعادة النظر في شبكة تمثيلها الدبلوماسي، حيث تسود في أوساط الشعب التشادي حالة من السخط على هذه العلاقات، باعتبار أن المتضرر الأكبر من هذه العلاقات هو الشعب، حيث لا أثر ملموس لما يشاع من اتفاقيات اقتصادية وزراعية مع إسرائيل، كما أنها تشوش على وقوف الشعب التشادي إلى جانب الفلسطينيين.
تشير بعض المعلومات إلى أن الحكومة التشادية اكتشفت مساعي إسرائيل لتنصيب الجنرال عبد الكريم الأخ غير الشقيق للرئيس محمد إدريس ديبي رئيسا للبلاد بديلا لأخيه، لذلك سارعت بقرار إغلاق سفارتها هناك لتقطع الطريق أمام تلك المساعي، حيث تواتر أن عبد الكريم حصل على هذه المكانة نتيجة لعلاقاته مع الحكومة الإسرائيلية، والتي أنشأها خلال زياراته السرية إليها، بينما يرى البعض أن الأمر مجرد مصادفة.
خلاصة القول أنه من باب المصالح تبدو الخطوة التشادية محاولة لإبقاء الباب مفتوحاً؛ لا هي قطيعة تامة مع إسرائيل، ولا هي استمرار مكلف للحضور المباشر؛ بل صيغة وسطية تسمح بالتحرك وفق تبدل الظروف، وإذا ما استمرت الحرب في غزة وتوسعت تداعياتها، فإن الحضور الدبلوماسي عبر أبوظبي قد يتحول إلى صيغة دائمة أكثر من كونه إجراءً مؤقتًا، أما إذا عادت التهدئة، فقد تجد تشاد نفسها مدفوعة إلى إعادة فتح قنوات مباشرة تعيد العلاقة إلى سابق عهدها.
مراجع
- إغلاق سفارة تشاد في إسرائيل: قراءة في الدوافع وتقاطعات المسار الإقليمي، مركز الوعي الإفريقي، 8 سبتمبر 2025م، الرابط: https://afroresearchs.com/2025/09/08/16764
- تشاد وإسرائيل: ضائقة مالية أم أزمة سياسة وراء إغلاق السفارة؟، موقع جيسكا، 14 سبتمبر 2025م، الرابط: https://www.geeska.com/ar/tshad-wasrayyl-dayqt-malyt-am-azmt-syast-wra-aghlaq-alsfart
- تشاد تغلق سفاراتها في عدة بلدان بينها اسرائيل، موقع قلب إفريقيا، 9 سبتمبر 2025م، الرابط:https://heartofafrica.info/?p=15179
قرار تشاد بإغلاق سفارتها في إسرائيل.. هل يمثل ضرورة مالية أم رسالة سياسية؟، مركز أفروبوليسي، 9 سبتمبر 2025 م، الرابط





