الأزمات الإقليميةالمنظمات الإقليمية والقارية

إخلاء مقر الجمعية الأفريقية بالقاهرة: خطوة للوراء؟

بعد فترة غير قصيرة من تردي أداء الجمعية الأفريقية بالقاهرة، وهي بلا جدال واحدة من أهم مؤسسات العمل الوطني والتحرري الأفريقي في تاريخ القارة، ظهرت أنباء عن إخلاء مقرها وتسليمه لورثة مالكه بالفعل في أجواء ملتبسة للغاية.

وفي ظل تحفظ القائمون على إدارة الجمعية في السنوات الأخيرة عن التعليق على الأمر، أو توضيح ملابساته ومصير الجمعية نفسه مستقبلًا، بينما ترددت أقاويل بتدبير الحكومة المصرية مقرًا للجمعية في العاصمة الإدارية. ومع ضعف ردود الفعل الأكاديمية والبحثية تجاه الخطوة فإن الأمر برمته قد يؤشر إلى حسم الأمر بالفعل، وطوي صفحة مقر الجمعية نهائيًا.

الجمعية ودور مصر الأفريقي: رؤية من الداخل

يمكن القول أن العرض الأوضح والأكثر دقة لنشاة الرابطة- الجمعية ودورها الأفريقية قد ورد في مؤلف محمد فايق: عبد الناصر والثورة الأفريقية (بيروت، 1984)، وكيف أن الرابطة جاءت محصلة أو جامعة تحتضن كافة المكاتب السياسية لحركات التحرير والحركة الوطنية الأفريقية بالقاهرة، التي شجعت بدورها تلك الحركات على فتح مكاتب سياسية دائمة على غرار مكتبة جبهة التحرير الجزائرية.

وعملت كحلقة اتصال بين مصر وحركات التحرر، والدعوة لقضايا القارة الوطنية،  لاسيما أن بعض هذه المكاتب كان يمثل تنظيمات سياسية معترفًا بها في بلادها، وذات خلفيات أيديولوجية متباينة من الماركسية إلى الليبرالية، مع التزام القاهرة بعدم التدخل في شئون الدول الأفريقية عبر عمل هذه المكاتب.

وقد أنشئت الرابطة الأفريقية في أواخر العام 1955 على هيئة جمعية لها نشاط سياسي وثقافي مثل تقديم كل التسهيلات الممكنة للمكاتب السياسية (المشار لها أعلاه)؛ ونشر الوعي الأفريقي بين المصريين وخلق المجال المناسب ليتعارف المثقفون المصريون والأفارقة من أعضاء المكاتب السياسية وبقية الشباب الأفريقي الذين يدرسون في القاهرة.

وخلص فايق إلى أن الرابطة أفادت كثيرًا في “إيجاد صلة ممتازة مع الشباب الأفريقي الموجود في جامعات ومعاهد ومدارس القاهرة. كما أفرزت الرابطة الأفريقية عددًا من المصريين الجامعيين المهتمين بالشؤون الأفريقية..”.

كما قدم مواليمو الراحل حلمي شعراوي سطورًا كاشفة عن رحلة الجمعية الأفريقية منذ تبلورها فكرة في عقل “المستشار عبد العزيز إسحاق”، وجمعها في مؤلفه الأخير “عن الشأن الإفريقي والعربي في حياتنا المعاصرة” (القاهرة، 2022)؛ ومن بين ما ذكره عودة د. إسحاق للقاهرة من جامعة غوردون (الخرطوم حاليًا) بعد استبعاد السلطات الإنجليزية له “بعد ترتيبها لانفصال السودان عن مصر”، وأنه لم ينس تلاميذه الموجودين في مصر مقيدين على منح دراسية من الحكومة والأزهر.

وأنه بعد أن سمع بخلو فيلا في شارع أحمد حشمت بالزمالك (المقر الحالي للجمعية) سعى بعد العام 1956 “إلى بعض رجالات الخارجية (أبرزهم محمد فايق) وخارجها لتستولي الدولة على الفيلا” ويمكنه أن يتطوع بإدارتها كمقر لحركات التحرر الأفريقي بشكل مركزي.

ويروي شعراوي تجربة إسحاق “المأساوية” من قلق بعض رجال الخارجية المصرية تجاه صعوده وذيوع اسمه؛ بل ووقف إصدار الرابطة لمجلة “نهضة إفريقيا” في العام 1964، واستبدالها بنسخة إنجليزية يتولى تحريرها د. عز الدين فريد (مدير معهد الدراسات السودانية 1955-1962، والذي قام بترجمة عدد وفير من كتب الجغرافيا إلى اللغة العربية من إصدار مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر بنيويورك)، حتى وفاته المبكرة في بداية عقده السادس بعد معاناة من سوء التقدير الوظيفي، حسب رواية شعراوي.

الجمعية الأفريقية في مرحلة الضمور

يتضح من القراءات المختلفة التي تناولت دور الجمعية الأفريقية أنها كانت تقوم بحزمة من الأدوار السياسية والإعلامية والثقافية مدعومة بقنوات اتصال مفتوحة مع أجهزة سيادية في نظام الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر؛ وأن صوت الجمعية كان مسموعًا لدى أغلب القادة الأفارقة الذين كانت لهم اتصالات مباشرة بالمسئولين عن الجمعية وبوسائل مختلفة منها اللقاءات المباشرة في محافل عدة.

لكن دور الجمعية تراجع في العقود التالية بشكل منهجي ليقتصر على بعض الفاعليات المتناثرة من حين لآخر، وباتت تغلق أبوابها في الشهور الأخيرة نحو أربعة أيام في الأسبوع، ولا تفتحها إلا لساعات قليلة، وسط ما رآه البعض تضييقًا على أنشطة الجمعية وفاعليتها وحدود مساحات الحرية المتاحة لأنشطة الطلبة الأفارقة داخلها.

ورغم اتساق هذا التراجع مع تراجع أكبر في توجهات مصر الأفريقية (ربما حتى سنوات قليلة مضت)، فإن الأسئلة لا تزال تثار حول أسباب هذا التراجع بشكل غير مقبول، وربما غير قابل للتفسير إلا في ضوء قصد وتعنت بائنين.

قدم السفير محمد نصر الدين، رئيس الجمعية الأفريقية في السنوات الأخيرة (والذي يتردد أنه أنهى عمله بها رسميًا نهاية العام 2024)، في حديث سابق أجرته مع جريدة الأخبار القاهرية (يونيو 2024) تنويرًا مهمًا عن الجمعية ودورها التحرري في خدمة نحو 40 دولة أفريقية في مرحلتي النضال ضد الاستعمار وبناء الدولة الوطنية بعد الاستقلال.

أن شعراوي توجه، بعد امتصاص كل تلك الصدمات، للتركيز على الكتابة والتعليم وبناء فضاءات للمعارضة السياسية، متنقلًا بين السودان وتونس ومصر.

وما يلفت في السياق الحالي هنا تأكيده أنه “عندما تُوفى الرئيس جمال عبد الناصر وتولى الرئيس السادات الحكم كان قد بدأ فى التجهيز للحرب لتحرير سيناء، وكان من شروط أمريكا حتى يتسنى لها مساعدته: طرد السوفيت، وعدم التعاون مع الاتحاد اليوغسلافى، وعدم التعاون مع الكتلة الشرقية، وأيضاً إغلاق الرابطة (الجمعية) الأفريقية و”التى كانت السبب الرئيسى فى تحرر أفريقيا” (حسب نصر الدين). وبالفعل استجاب الرئيس السادات الذى كان مشغولاً بتحرير الأرض، وبعد محاولات وافق على أن تبقى مع تغيير المسمى لها لتصبح الجمعية الأفريقية، وتكون نواة للطلاب الوافدين والابتعاد عن الدور التحررى لها”.

وبغض النظر عن تفسير  مسألة “شروط أمريكا حتى يتسنى لها مساعدته” (السادات) ووضعها من ضمن تلك الأسباب إغلاق مقر “الرابطة”، والتأكيد على أن الرابطة لعبت الدور الرئيسي في تحرر أفريقيا، فإن حديث السفير، الذي اضطلع منفردًا تقريبًا بإدارة شئون الجمعية، يلمح لإمكانية تكرار ممارسة ضغوط في الفترة الراهنة لتفريغ الجمعية من رمزيتها التاريخية والمكانية مما يخصم كثيرًا من جهود مصر الراهنة لاستعادة حضورها الأفريقي على النحو الذي يليق بها كواحدة من أبرز دول العمل الأفريقي الجماعي وأكثرها إخلاصًا لقضايا الشعوب الأفريقية كافة بشهادة كافة الأفارقة الذين مروا في مرحلة أو أخرى بمقر الجمعية الأفريقية.

وفي المقابل قدمت د. ريم أبو الفضل، التي ارتبطت بصلة وثيقة بمواليمو شعراوي وأسهمت في ترجمة واحد من أهم مؤلفاته إلى اللغة الإنجليزية، قدمت رواية مغايرة قليلًا عما سرده نصر الدين، وجاء ذلك في مقالها تأبينًا لشعراوي (Abou-El-Fadl, Reem, Helmi Sharawy (1935–2023) Review of African Political Economy, March 2023, Vol. 50, No. 175 (March 2023), pp. 90-95) بعد سردها لسجن السادات لمحمد فايق، رئيس شعراوي في الرابطة الأفريقية، في العام 1971، ثم إقالة الأخير من منصبه في مؤسسة الرئاسة وتأكيدها: أن شعراوي توجه، بعد امتصاص كل تلك الصدمات، للتركيز على الكتابة والتعليم وبناء فضاءات للمعارضة السياسية، متنقلًا بين السودان وتونس ومصر.

وأن بعده عن المركز السياسي قد نما بمرور الوقت …وسعى لبقاء دوره في الرابطة الأفريقية التي لم تعد مستخدمة سياسيًا من قبل النظام (السادات) لكنها استمرت في استضافة العديد من حركات التحرر الأفريقية. وعمل شعراوي في الفترة 1973-1975، حسب نص أبو الفضل،على تحويل الرابطة إلى مركز ثقافي وفكري، وإعادة تسميتها الجمعية الأفريقية، فيما استمر عدد من رفاقه المتعاطفون مع جهده في توفير موارد ومساعدات للجمعية؛ بحيث أمكن لشعرواي دعوة عدد كبير من شبكة العلماء والطلاب الأفارقة الذين يعرفونه شخصيًا للتعاون (مع الجمعية).

وهو دور لم يستكمل بنجاعة في العقود التالية رغم التحسن النسبي في الأوضاع السياسية  في مصر بعيدًا عن الاستقطاب الأمريكي- السوفييتي.

الجمعية الأفريقية مركزًا للتحرر الأفريقي: أثرًا بعد عين؟

لا يخطيء أي مَعنِي بالشؤون الأفريقية ولع فئات واسعة من الشباب والنخب الأفريقية والأكاديمية الغربية بدور الجمعية الأفريقية في دعم حركات التحرر الأفريقية منذ منتصف الخمسينيات ، أو على الأقل دراسة هذا الدور ووضعه في الاعتبار في أية جهود معنية جادة، ثم دورها الثقافي والفكري كحاضنة للتفاهم “الأفريقي- المصري”.

وكانت الجمعية قبلة عدد من أهم الباحثين المعنيين بدراسة حركات التحرر الأفريقية، ومنهم على سبيل المثال إريك بيرتون Eric Burton (الأستاذ المساعد للتاريخ العالمي في معهد التاريخ المعاصر بجامعة انسبروك Innsbruck) والجنوب أفريقي ماتيو جريلي Matteo Grilli (المؤرخ وصاحب مؤلف “النكرومية والوطنية الأفريقية- 2018) خلال زيارتهما للقاهرة (أكتوبر 2022) وعملهما على التوسع في مشروع دراسة موثقة لمراكز التحرر الوطني في أفريقيا، وأهمها من وجهة نظرهما القاهرة.

وقد قدم بيرتون تحديدًا دراسة لدور القاهرة في حركات التحرر (تحت عنوان Hubs of Decolonization. African Liberation Movements and “Eastern” Connections in Cairo, Accra, and Dar es Salaam، برلين، 2029، ويُرجح أن توسع في كتاب مستقل)، ووصف الجمعية (التي ذكر أنها تأسست في العام 1957، وهو ما يخالف رواية فايق، ويلائم سياقيًا رواية شعرواي عن دعوة أستاذه إسحاق لشراء فيلا الرابطة الواقعة قرب منزل الأخير في أجواء العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956) بأنها عملت “دار مقاصة غير بيروقراطية لدعم حركات التحرر(الأفريقية).

وأنها حظيت بتقدير عدد من القادة الأفارقة الشباب في بداية نضالهم مثل الجنوب أفريقي فوسومزي ميك Vusumzi Make من المؤتمر الأفريقاني الجنوب أفريقي (PAC) لأن الرابطة مكنته “من نشر وترويج كتابات مختلفة، وتوجيه برامج إذاعية لجنوب أفريقيا، وعقد صداقات، والحصول على منح علمية للكثير من الطلاب الجنوب أفارقة”. ويكشف هذا المثال عن أهمية مقر الجمعية الأفريقية الرمزية والعملية بشكل كبير.

بأي حال، فإنه بينما يسير العمل على قدم وساق في التأريخ لدور الجمعية الأفريقية، حتى في إطار نقدي متعدد الأبعاد وليس بالضرورة تقديم قراءة مقدرة لهذا الدور على علاته، مع ملاحظة غياب دراسات مصرية مماثلة أو قلتها، فإن غلق مقر الجمعية، وما يتردد عن نقله إلى مقر جديد شرق القاهرة، سيعني بالضرورة نهاية الأثر المادي الملموس لدور الجمعية وتاريخها لتصبح أثرًا بعد عين، أو على أفضل تقدير مجرد مقر جديد لحقبة جديدة خالية من زخم النضالات التحررية ولحظاتها التاريخية الفارقة، وموقعها في قلب العاصمة المصرية.

كاتب

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى